التحكيم فى مسائل الإفلاس الدولى
****************
بقلم أ.د / ناجى عبد المؤمن
رئيس قسم القانون التجارى والبحرى
كلية الحقوق – جامعة عين شمس
*****************
إشكاليات الإفلاس الدولى
فى علاقته مع التحكيم
حتى وقت قريب كان السائد هو انه لا توجد أية علاقة بين الافلاس والتحكيم ، ذلك لان التحكيم كوسيلة لحل النزاعات يجد أساسه فى اتفاق الاطراف فى حين ان الافلاس يغل يد المدين فلا يستطيع إبرام مثل هذا الانفاق ، والإفلاس يهدف الى تحقيق عدة أهداف تعكس فى مجملها المصلحة العامة لهذا كانت قواعد متعلقة بالنظام العام .
اما التحكيم فيهدف الى حل النزاع بين طرفين ولا يهم الا هذين الطرفين ولهذا فان قواعده فى مجملها تنظمها الحرية الفردية وسلطان الإرادة ، او كما قيل ” e’est le domaine de la libere de le l’effect relative de l’individualisme” .
وقد كرست العديد من النصوص القانونية الفصام بين التحكيم والإفلاس ، ففى فرنسا منعت المادة 2059 من القانون المدنى التحكيم فى المسائل المتعلقة بالنظام العام وفى مصر نصت المادة 11 من قانون التحكيم رقم 27 لسنة 1994 على انه ” …. لا يجوز التحكيم فى المسائل التى ى يجوز فيها الصلح “
ويبدو ان هذه العلاقة بين الافلاس والتحكيم قد بدأت تتغير سيما اذا ما تعلق الامر بالإفلاس الدولى . فاحتدام المنافسة بين الشركات والمشروعات الاجنبية قد أجبرها على التوسع فى نشاطها خارج حدودها الوطنية مستفيدة فى ذلك من النظام الجديد للتجارة العالمية ومن رغبة الغالبية العظمى من دول العالم الثالث فى استقطاب الاستثمارات الأجنبية بمختلف أنواعها . والملاحظ ان هذه الشركات وتلك المشروعات تميل عادة الى الالتجاء الى التحكيم كوسيلة لتسوية نزاعتها مع المتعاملين معها من الدول المضيفة . ومع تزايد حالات الافلاس فى مختلف أنحاء العالم أثير التساؤل حول مصير اتفاقات التحكيم التى أبرمتها هذه الشركات وتلك المشروعات وهو أثر إفلاس احدى هذه الشركات اذا كانت طرفا فى منازعة تحكيم قائمة ، وحول التنازع بين قواعد الافلاس وقواعد التحكيم … باختصار حول العلاقة بين الافلاس والتحكيم .
وللتدليل على ما تقدم فقد لوحظ فعلا ان من بين 500 قرار تحكيم صادرة عن غرفة التجارة الدولية بباريس فى الفترة ما بين 1989 الى 1994 ، 27 منها تعرضت لموضوع الافلاس . وفى سنة 1994 وحدها وجد ان 30 قضية تحكيم اتخذت فى مواجهة أحد أطرافها إجراءات افلاس موازية لإجراءات التحكيم .
وامام هذه التطور بدأت الأنظار تتركز على اعادة بحث العلاقة بين الافلاس ، سيما الدولى منه ، والتحكيم ، بل ان بعض الفقه قد ذهب الى ابعد من ذلك مطالبا بإجازة التحكيم فى مسائل الافلاس عموما ، فباعتباره وسيلة سريعة لحل المنازعات فان التحكيم يسهل اجراءات التسوية القضائية او تصفية أموال المدين ، ولا تمنع الطبيعة الخاصة للتحكيم من قيامه بهذا الدور فأحكام التحكيم تتخذ فى النهاية تحت رقابة قضاء الدولة ، اما القول باستحالة ذلك بالنسبة للمدين نظرا لغل يده عن إدارة أمواله والتصرف فيها ومباشرة الدعاوى والاجراءات القضائية فيمكن التغلب على مثل هذه الصعوبات بالمساعدة او ” التمثيل” المقرر فى بعض الاحوال . زد على ذلك ان غل اليد وان كان يقيد المدين بعد صدور الحكم فانه لا يؤثر على التصرفات والاتفاقات التى أبرمها قبل ذلك .
وفى اعتقادنا ، فان الخلاف بين الاتجاهين السابقين بخصوص العلاقة بين الافلاس والتحكيم هو خلاف بين النظرية التقليدية ، التى ترى ، او بالاحرى كانت ترى ، استبعاد التحكيم فى مسائل الافلاس بشكل عام وبين الطموح فى رسم هذه العلاقة من جديد ، بشكل يسمح بمد نطاق التحكيم اليه . وبين هذين الاتجاهين ، يؤكد استقراء الواقع الحالى للنصوص ، ان هناك هامش يسمح به القانون بالتحكيم فى مسائل الافلاس : الفصل الاول . وخارج هذا الهامش قد يتعايش النظامان : التحكيم والافلاس ، بشكل عفوى ، وهو أمر يثير بدوره الكثير من المشاكل : الفصل الثانى .
الحدود التى يجوز فيها اللجوء
الى التحكيم فى مسائل الافلاس عموما
يبرر الفقه عادة استبعاد التحكيم فى مسائل الافلاس بمجموعة من الأسس والاعتبارات ، يبدو انها لم تعد كافية للقول باستبعاد التحكيم تماما فى مسائل الافلاس المبحث الاول فدراسة النصوص ، خاصة الجديدة منها التى تنظم العلاقة بين الافلاس والتحكيم تؤكد وجود مساحة يتعايش فيها النظامان معا ، بل وينظم القانون ذاته هذا التعايش : المبحث الثانى.
أسس استبعاد التحكيم
فى مسائل الافلاس ومدى كفايته
يبرر استبعاد التحكيم فى افتتاح اجراءات الافلاس لتعلق الأخير بالنظام العام ، كما لا يجوز للمحكم التصدى لاى مسألة متصلة بالإفلاس لان لمحكمة الافلاس اختصاص شامل بكل ما يتفرع عنه ( الأسس الموضوعية) . كذلك لا يجوز للمدين اللجوء للتحكيم لانه بالافلاس غلت يده (الأسس المبينة على اعتبارات شخصية) .
المطلب الاول
الأسس الموضوعية لاستبعاد
التحكيم فى مسائل الافلاس
أولا : تعلق قواعد الافلاس بالنظام العام (إحالة)
سبق ان قلنا ان نظام الافلاس يقوم على مجموعة من الأسس تهدف فى مجملها الى حماية الصالح العام للتجارة والتجار . صحيح ان حماية الدائنين من عبس المدين وتحقيق المساواة فيما بينهم يعتبر من الاولويات التى يقوم عليها نظام الافلاس ولكن هذه الحماية ، كما يذهب لذلك الفقه وبحق ليست مقصودة لذتها بل هى لصالح الائتمان عموما .
زد على ذلك الجزء الأكبر من قواعد الافلاس ينتمى الى قانون المرافعات والتنفيذ الجبرى لهذا فهى قواعد آمره لا يجوز الخروج عليها باتفاق أصحاب المصالح الخاصة .
وطالما تعلقت قواعد الافلاس بالنظام فلا يجوز اللجوء بشأنه الى التحكيم ، وهذا هو ما نصت عليه المادة 2060 من التقنين المدنى الفرنسى والمادة 11 من قانون التحكيم المصرى السابق الاشارة اليهما .
ثانيا : الاختصاص الشامل لمحكمة الافلاس وتعلقه بالنظام العام :
كان يكفى القول بتعلق مسائل الافلاس بالنظام العام لاستبعاد التحكيم فى هذه المسائل ، غير انه لوحظ وبحق ، ان الافلاس يثير العديد من المسائل ، يتصل بعضها مباشرة بالافلاس ويتطلب الفصل فيها تطبيق نص من نصوصه ، وبالتالى فلا يجوز فيها التحكيم ، فى حين ان البعض الاخر من هذه المسائل لا يتصل به مباشرة ، وبناء على ذلك فان القول باستبعاد كافة المسائل المتعلقة بالافلاس من نطاق التحكيم على أساس النظام العام هو قول يبدو غير كاف .
وبمعنى أخر فاذا كانت فكرة النظام العام ، وان كانت تكفى لمنع تصدى التحكيم لمسألة شهر الافلاس ، فانها لا تكفى لمنعه من التصدى لكافة المسائل التى يثيرها ، سيما تلك التى تتطلب تطبيق نص من نصوصه .
ولهذا السبب يتجه أغلب الفقه الى تأصيل استبعاد التحكيم فى المسائل المتعلقة بالافلاس على أساس الاختصاص المانع للمحكمة التى أصدرت حكم الافلاس بكافة المسائل المتعلقة به .
ولم تكن المجموعة التجارية الملغاة تتضمن نصا باختصاص محكمة الافلاس بكافة المسائل المتعلقة به ، مع ذلك فلقد كان هذا الامر مستفاد من نص المادة 54 مرافعات التى كانت تنص على أنه ” فى مسائل الافلاس يكون الاختصاص للمحكمة التى قضت به ” اما قانون التجارة الجديد فقد حرص على النص فى المادة 560 على ان ” تكون المحكمة التى شهرت الافلاس مختصة بنظر جميع الدعاوى الناشئة عن التفليسة ” .
ويتفق التشريع المصرى فى هذا المسلك مع غيره من التشريعات وعلى رأسها التشريع الفرنسى حيث كانت تنص على اختصاص محكمة الافلاس بالمسائل المتفرعة عنه المادة 635 من تقنين التجارة ثم أقرته المادة 112 من قانون 22 ديسمبر 1967 ثم المادة 174 من قانون 25 يناير 1985 وغيره من التعديلات المتلاحقة .
ويبرر اختصاص المحكمة التى أصدرت حكم الافلاس بكافة المسائل المتفرعة عنه عادة بأن الافلاس يثير العديد من المنازعات قبل ان يبلغ هدفه ، كتلك المتعلقة بتنظيم التفليسة او إرادتها او تحديد عناصرها … ومن الاوفق ان نعرض هذه المنازعات على المحكمة التى أصدرت حكم الافلاس لان هذه المحكمة هى التى يقع فى دائرتها موطن المدين وقد سبق وتحققت من وقوفه عن الدفع وقامت بتعيين أمين التفليسة ونصبت أحد قضاتها مأمورا لها … فهذه المحكمة هى إذن أقدر من غيرها على النظر فى المنازعات التى تتفرع عن التفليسة ولو كانت هذه النازعات تقع بحسب القواعد العامة فى اختصاص محكمة أخرى .
ومع ذلك فقد ذهب بعض الفقه ، وبحق ، الى ان الاختصاص المانع لمحكمة الافلاس لا يعد فى ذاته سببا لاستيعاد التحكيم فى مسائل الافلاس ، فأحيانا يسند المشرع الاختصاص بأنواع معينة من الدعاوى الى محكمة معينة دون ان يسلب الاطراف حرية الاتفاق على محكمة أخرى او قضاء آخر (التحكيم) . ففى فرنسا مثلا أسندت المادة 68 من قانون 23 يناير 1968 ، المعدل بالقانون 13 يوليو 1978 الاختصاص الشامل بمنازعات براءات الاختراع الى محاكم الابتدائية ، ولكن الرأى مستقر على ان هذا النص لا يحول دون لجوء الاطراف للتحكيم فى الحدود التى رسمتها المواد 2059 ، 2060 من التقنين المدنى . وهو نفس ما قرره الأستاذ Motuisky بخصوص الاختصاص الامر فى منازعات العمل
وهكذا يميل أغلب الفقه الى تقرير قاعدة عامة مؤداه أن ” الاختصاص المانع ” لا يعنى بالضرورة اختصاص متعلق بالنظام العام ، ولهذا فلا يصح ، سواء فى مسائل الافلاس او فى غيرها ، الارتكان الى هذه الفكرة لاستبعاد التحكيم الا فى الاحوال التى يكون فيها هذا الاختصاص متعلق بالنظام العام . وعلى ذلك فان السؤال الى يجب طرحه هو هل اختصاص محكمة الافلاس بكافة المسائل المتعلقة به يتعلق بالنظام العام وبالتالى لا يجوز التحكيم فى هذه المسائل ؟؟
هذا ما يؤكده فى الواقع أغلب الفقه والقضاء المصرى ، الاحكام المتعلقة بتعيين محكمة الافلاس او ” بيان المسائل التى تدخل فى اختصاصها تعد من النظام العام لأنها قررت حماية لروكية التفليسة وصحة ما أحاطها به القانون من اجراءات.
فاذا رفعت دعوى الافلاس امام محكمة غير مختصة كان لكل ذى مصلحة الدفع بعدم الاختصاص فى أى حالة تكون عليها الدعوى ولو لأول مرة امام محكمة النقض ، كما يكون للمحكمة ان تقض به من تلقاء نفسها .
وهذا أيضا ما استقر عليه الفقه والقضاء الفرنسى منذ وقت غير قريب ، وأبدته محكمة استئناف باريس حينما قالت ان المنازعة متى كانت ” تتبع اختصاص متعلق بالنظام العام للمحكمة التى أعلنت التصفية القضائية فانها لا يمكن ان تخضع للتحكيم ولا لاى حكمة أخرى غير تلك التى أعلنت التصفية القضائية وهكذا يمكن القول باستبعاد التحكيم فى مسائل الافلاس لتعلق هذه الأخيرة بالنظام العام ، يستوى فى ذلك افتتاح إجراءاته او النظر فى المسائل اللاحقة التى يمكن يثيرها .
المطلب الثانى
استبعاد التحكيم فى مسائل الافلاس
لاعتبارات تتعلق بشخص المدين
أولا : غل يد المفلس عن إدارة أمواله والتصرف فيها :
معلوم انه بمجرد صدور حكم شهرا الافلاس فان يد المدين تغل عن إدارة أمواله والتصرف فيها . وفى هذا تنص المادة من قانون التجارة المصرى على ان ” تغل يد المفلس بمجرد صدور حكم الافلاس عن إدارة أموال والتصرف فيها . وتعتبر التصرفات التى يجريها المفلس فى يوم صدور حكم شهر الافلاس حاصلة بعد صدوره ” .
ولسنا نريد فى هذا الخصوص التعرض بالتفصيل لهذا المبدأ الأصيل من مبادئ الافلاس ، فقد تناولته العديد من الشروح الفقهية بالتحليل والتأصيل ، وانما نكتفى ببيان الى اى مدى يمكن الارتكان الى هذا المبدأ لاستبعاد التحكيم .
ثانيا : عدم كفاية مبدأ غل اليد لاستبعاد التحكيم فى مسائل الافلاس :
وفى هذا السياق يمكن القول ببساطة أنه وبمجرد صدور حكم الافلاس لا يستطيع المدين الاتفاق على التحكيم ، ايا كان شكل هذا الاتفاق ، وذلك بحكم ان يده قد غلت عن إدارة أمواله والتصرف فيها والتقاضى بشأنها .
اما بالنسبة للتحكيم الذى التزم به المدين قبل صدور حكم الافلاس وان بقى من حيث المبدأ صحيحا ونافذ فى مواجهة جماعة الدائنين ، على اعتبار انه لم يكن وقت الاتفاق عليه ما يحد من سلطة المدين فى أبرام مثل هذا الاتفاق ، الا ان السؤال يتعلق بمدى تأثر هذا الاتفاق على التحكيم بحكم الافلاس الذى صدر فيما بعد ؟ وبمعنى اخر الا يمكن القول بعدم نفاذ هذا الاتفاق على التحكيم فى مواجهة جماعة الدائنين فى الاحوال التى يتم فيها هذا الاتفاق فى فترة الريبة .
الواقع انه يمكن القول ان الاجابة على هذا السؤال تتوقف على الشكل الذى اتخذه الاتفاق على التحكيم فاذا كان هذا الاتفاق قد اخذ صورة “شرط تحكيم” فان مصير هذا الشرط يرتبط بمصير العقد الذى ورد به ، فاذا وقع العقد تحت حالة من حالة من حالات عدم النفاذ الوجوبى او الجوازى كان هذا هو مصير شرط التحكيم أيضا باعتباره جزء من اعقد . اما اذا قلت العقد من حالات عدم النفاذ فان أمر الاستمرار فيه متروك لامين التفليسة فاذا ما قرر السنديك الاستمرار فى تنفيذ العقد فعليه ان يفعل ذلك فى كل ما يتضمنه العقد من حقوق والتزامات بما يشمله ذلك من مراعاته لشرط التحكيم.
اما اذا اتخذ الاتفاق على التحكيم شكل “مشارطة” فهذا الاتفاق وان كان صحيحا من حيث المبدأ الا ان بعض الفقه الفرنسى لا يستبعد وقوع ضمن حالات عدم الاحتجاج المنصوص عليها فى المادة 31 من القانون الفرنسى ، متى كانت مثل هذه المشارطة تهدف الى تفضيل احد الدائنين على غيره وكان هذا الدائن الاخر فى هذه المشارطة يعلم وقت إبرامها يتوقف المدين عن الدفع ، وكل هذا على النحو الذى سنوضحه فى المبحث الثانى .
حدود استبعاد التحكيم
فى مسائل الافلاس
اذا كان الافلاس كنظام يتسم بالشمولية من حيث انه ينصب على كل الذمة المالية للمدين ، وكانت قواعده تتعلق فى مجملها بالنظام العام على نحو ما قدمنا ، فهل يعنى ذلك . استبعاد التحكيم تماما فى كافة المسائل المتعلقة به .
الواقع ان القول باستبعاد التحكيم فى مسائل الافلاس لتعلق هذه الأخيرة بالنظام العام انما ينطوى على تبسيط مخل للمشكلة ، فاتفاقات التحكيم التى أبرمها المدين قبل الحكم بإفلاسه تبقى كقاعدة عامة صحيحة ، كما ان لأشخاص التفليسة ، بعد صدور حكم الافلاس اللجوء للتحكيم فى حدود معينة .
المطلب الاول
صحة اتفاقات التحكيم
التى ابرمها المدين قبل الحكم بإفلاسه
الفرض هنا ان المدين ، وقبل سقوطه فى هاوية الافلاس ، كان قد ابرم عقدا تضمن شرط تحكيم تم صدر الحكم بإفلاسه وثارت منازعة بخصوص تنفيذ هذا العقد ، فهل يحتج بشرط التحكيم الوارد به على جماعة الدائنين ؟؟
ان الاجابة على هذا التساؤل لا تثير كثير مشاكل فى مسائل الافلاس الداخلى او المحلى على عكس الحال فى مسائل الافلاس الدولى .
أولا : فى مسائل الافلاس الداخلى او المحلى :
استقر الرأى فى الفقه الفرنسى على الربط بين مصير العقد الذى يتضمن شرط التحكيم وبين شرط التحكيم ذاته ، فاذا ما فلت العقد من عدم النفاذ المقرر للتصرفات الواقعة فى فترة الريبة وقرر السنديك ، بما له سلطة فى هذا الشأن ، الاستمرار فى تنفيذه ، فانه ، اى السنديك ينفذه بكل ما يتضمنه من حقوق والتزامات بما فيها شرط التحكيم .
ولا يختلف الامر اذا ما تعلق الامر بمشارطة تحكيم إبرامها المدين قبل صدور الحكم بإفلاسه ، فهذه المشارطة ، شأنها شأن كل التصرفات التى أبرمها قبل ان تغل يده ، تبقى ، من حيث المبدأ نافذة فى مواجهة جماعة الدائنين .
ولقد تأكد هذا الاتجاه بمقتضى حكمين للقضاء الفرنسى ، احدهما لمحكمة استئناف جرنوبل فى 19 أكتوبر 1982 والأخر لمحكمة النقض فى 19 يوليو 1982 ، وكان النزاع الذى صدر بشأنه هذين الحكمين بتعلق بشرط تحكيم تضمنه عقد أبرمه المدين قبل حكم التسوية القضائية ثم ثار نزاع بعد صدور الحكم الأخير بخصوص تنفيذ هذا العقد الذى قد قرر السنديك الاستمرار فيه فعارض السنديك فى اختصاص التحكيم غير ان الحكمين انتهيا الى ان السنديك ، وقد قرر الاستمرار فى تنفيذ العقد الذى أبرمه المدين قبل حكم التسوية القضائية ، فان عليه الاستمرار فيه بكل ما يتضمنه من حقوق والتزامات بما فيها من شرط التحكيم .
ولا يختلف الموقف فى القانون المصرى كثيرا عما عليه الحال فى القانون الفرنسى ، فوفقا للمادة 623 من قانون التجارة ” لا يترتب على الحكم بشهر الافلاس فسخ العقود الملزمة للجانبين التى يكون المفلس طرفا فيها الا اذا كانت قائمة على اعتبارات شخصية ” .
وعلى ذلك ، فان امر الاستمرار فى تنفيذ العقود التى كان المدين قد ابرمها قبل الحكم بإفلاسه انما يكون بيد السنديك ، فان رأى الاستمرار فى التنفيذ يحقق فائدة لجماعة الدائنين استمر فى تنفيذه بعد استئذان قاضى التفليس على النحو الذى تقضى به المادة 623/2 ، وعندئذ على السنديك ” تنفيذ التزام المفلس كاملا “
وفى المقابل ، اذا قرر أمين التفليسة ان تنفيذ العقد ، او الاستمرار فى تنفيذه ، لا يعود بالفائدة على جماعة الدائنين فيكون له إغفال ذلك ، ويكون للطرف الاخر فى العقد ان يطلب الفسخ . فاذا ما قضى بفسخ العقد فان التساؤل الذى يثار هو هل يعنى ذلك زوال شرط التحكيم أيضا ؟
هذا بالفعل ما أكدته محكمة النقض الفرنسية بخصوص شرط بالاتفاق على اختصاص محكمة عينة كان قد ورد بعقد أبرمه المدين قبل الحكم بإفلاسه ثم رفض السنديك بعد صدور الحكم الاستمرار فى تنفيذ العقد ، وانتهت المحكمة الى ان انتهاء العقد يعنى انتهاء كل ما تضمنه من شروط بما فيها شرط الاتفاق على اختصاص محكمة معينة .
ومن جانبنا نعتقد فى سلامة منطق محكمة النقض الفرنسية ، فكما ان حجية شرط التحكيم الوارد بعقد أبرمه المفلس قبل الحكم بإفلاسه يجد أساسه فى ان السنديك متى قرر الاستمرار فى تنفيذ هذا العقد فعليه تنفيذه بكل ما يتضمنه من شروط ، فلا معنى اذا حال ان يقرر السنديك ، بما له من سلطة فى هذا الشأن ، عدم الاستمرار فى العقد ، الإبقاء على بعض شروطه .
ولعل المشكلة الأساسية فى هذا التحليل هى ما يتمتع به شرط التحكيم من استقلال عن العقد الذى ورد به ، استقلالا يمنع تأثر شرط التحكيم بما يطرأ على العقد من عيوب ، وهو ما آثرنا مناقشته فى مسائل الافلاس الدولى باعتبار انه المجال الذى ولد فيه مبدأ استقلال شرط التحكيم .
ثانيا : فى مسائل الافلاس الدولى :
لا يختلف حكم شرط التحكيم ، الذى يتضمنه عقد إبرمه المدين قبل صدور حكم الافلاس ، فى مسائل الافلاس الدولى كثيرا عما هو مقرر فى مسائل الافلاس الداخلى او المحلى ، فالأستاذ فليب فوشار يرى ان هذا الاتفاق على التحكيم يبقى صحيحا ويحتج به على المدين ، وعلى الدائنين ، وعلى أمين التفيلسة حينما يقرر الاستمرار فى تنفيذ العقد الذى يتضمن شرط التحكيم .
الى نفس المعنى ذهب قرار التحكيم رقم 6057 الذى أصدرته محكمة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية سنة 1991 ، والذى قالت فيه المحكمة ان ” مهمتها لا تتأثر بحكم التصفية الذى صدر لاحقا بفرنسا ” وانه أيا كانت المرحلة التى تمر بها تصفية المشروع الفرنسى فان هذه التصفية لا تعفيها (اى المحكمة ) من اصدار قرارها وأشارت محكمة التحكيم فى هذا الصدد الى مجموعة من أحكام القضاء الفرنسى التى تؤكد حجية شرط التحكيم ، الذى تضمنه عقد سابق على حكم الافلاس ، على جماعة الدائنين .
ويسوق الفقه عدة حجج لتبرير هذا الحكم فمن ناحية أولى فان شرط التحكيم يعتبر من أعمال الادارة العادية فى المسائل التجارية ولهذا يتعين احترامه ، ومن ناحية ثانية ، فان شرط التحكيم قد ورد بعقد سابق على افتتاح اجراءات الافلاس وهذا العقد كان ينتج آثاره لو لم تتخذ هذه الاجراءات فاذا قرر السنديك الاستمرار فى تنفيذ العقد الذى تضمن شرط التحكيم فعليه تنفيذه بكل ما يتعلق به من حقوق والتزامات بما فيها تلك الناتجة عن شرط التحكيم .
وتثير هذه الحجة الأخيرة التساؤل حول حكم شرط التحكيم الذى يتضمنه عقد آثر السنديك عدم تنفيذه ، هل ينطبق عليه ما سبق وذكرناه فى مسائل الافلاس المحلى ، بحيث يؤدى انتهاء العقد الذى يتضمن شرط التحكيم الى زواله بكل ما يشمله بما فى ذلك شرط التحكيم ؟
ولعل السبب فى إثارة هذا السؤال هو ما أكده فقه وقضاء التحكيم التجارى الدولى دوما من استقلال شرط التحكيم عن العقد الذى يتضمنه ، بحيث لا يتأثر هذا الشرط ببطلان هذا العقد . فهل يعنى ذلك فى مسائل الافلاس الاولى بقاء شرط التحكيم يحتج به على جماعة الدائنين بالرغم من انتهاء العقد لعدم رغبة السنديك فى استمرار فيه ؟
الواقع ان الأستاذ فليب فوشار لم يتعرض فى مقالته السابقة عن التحكيم والافلاس لهذا الفرض ولكنه أكتفى بالتأكيد على حجية شرط التحكيم الذى تضمنه عقد أبرمه المدين قبل الحكم بإفلاسه على جماعة الدائنين ، وأورد ضمن من أورد من حجج أنه اذا اختار السنديك الاستمرار فى تنفيذ العقد فعليه تنفيذه بكل ما يتضمنه من حقوق والتزامات بما فيها تلك الناتجة عن شرط التحكيم وهكذا فان حجية شرط التحكيم بالنسبة لجماعة الدائنين تجد أساسها فى استمرار السنديك فى تنفيذ العقد ، فهل يعنى ذلك انه اذا آثر السنديك عدم تنفيذه زال العقد بما يتضمنه من شرط التحكيم ؟
هذا فعلا ما أكدته محكمة النقض الفرنسية فى حكمها الصادر فى 19 يناير 1932 السابق الاشارة اليه بمناسبة الشرط الخاص بالاتفاق على اختصاص محكمة معنية الوارد بعقد ابرمه المدين قبل الحكم بإفلاسه ، غير ان البعض قد انتقد هذا الحكم أولا لان رفض السنديك تنفيذ العقد لا يعنى استبعاد كافة شروط هذا العقد ، سيما اذا كانت لا تتعارض مع نظام الافلاس ، وثانيا ، وهو الأهم لان شرط التحكيم يتمتع باستقلال بحيث لا يتأثر فى الاحوال التى يقرر فيها السنديك عدم تنفيذ العقد .
وهكذا ينتهى هذا الرأى الى صحة شرط التحكيم ، والاحتجاج به على جماعة الدائنين حتى فى الاحوال التى يؤثر فيها السنديك عدم تنفيذ العقد الذى تضمن هذا الشرط .
ومن جانبنا نعتقد انه ، وبصرف النظر عن الانتقادات التى يمكن ان توجه الى مبدأ استقلال شرط التحكيم ، فان الواقع يشهد بعدم تردد المحاكم فى تطبيق هذا المبدأ سيما اذا ما ورد بعقد دولى كأن يكون بين تاجر أجنبى وآخر وطنى . وهكذا لا مفر من القول بحجية شرط التحكيم على جماعة الدائنين حتى لو آثر السنديك عدم تنفيذ مثل هذا العقد .
المطلب الثانى
مدى صحة اتفاقات التحكيم
التى تتم بعد الحكم بالافلاس
ليس صحيحا انه بعد صدور حكم الافلاس تصبح كافة المسائل التى يثيرها من اختصاص المحكمة التى أصدرته . فهناك بعض المسائل تخرج عن اختصاص هذه المحكمة ، وبالتالى يبقى اللجوء الى التحكيم بشأنها مفتوحا كما هناك نصوص خاصة تجيز لأشخاص التفليسة اللجوء التحكيم (ثانيا) .
أولا : صحة اتفاقات التحكيم التى ابرمها المفلس بعد الحكم بالافلاس استنادا الى القواعد العامة :
ليس من شك فى ان هناك جملة اعتبارات تقف حائلا امام قبول التحكيم الذى يتم بعد صدور حكم الافلاس ، فقد سبق ان أشرنا الى اختصاص المحكمة التى أصدرت حكم الافلاس بكافة المسائل المتعلقة به ، وقلنا ان هذا الاختصاص يتعلق بالنظام ، وبالتالى فلا يجوز بشأن هذا المسائل الى التحكيم ، على اعتبار ان اللجوء الى التحكيم فى مثل هذه الحالات يتعارض مع ضرورة تركيز كافة ما يتعلق بالافلاس من منازعات فى يد المحكمة التى أصدرت الحكم به .
زد على ذلك انه بصدور حكم الافلاس تغل يد المدين عن إدارة أمواله والتصرف فيها ، فلا يستطيع الاتفاق على التحكيم ، سواء اتخذ هذا الاتفاق شكل شرط تحكيم او مشارطة تحكيم .
لكن ، على الرغم من كل هذه الاعتبارات ، الا ان هناك مجالا ، ولو بسيط ، حتى بعد صدور حكم الافلاس ، يمكن فيه اللجوء الى التحكيم ، فاختصاص محكمة الافلاس بالمسائل المتفرعة عنه لا يعنى اختصاص هذه المحكمة بكل ما يثار بمناسبة الافلاس من منازعات ولكنه يتحدد ، كما استقر على ذلك الفقه والقضاء ، بضرورة ان يكون النزاع مما يعرض الا بمناسبة الافلاس ويستلزم تطبيق نص من نصوصه . اما فى الاحوال التى لا يتطلب الفصل فى المنازعة تطبيق اى نص من نصوص قانون التجارة الواردة فى باب الافلاس فيبقى أمر الاختصاص بهذه المنازعة خاضعا للقواعد العامة ، بما يعنيه ذلك من إمكانية اللجوء بشأنها الى التحكيم متى كان ذلك جائزا وفقا للقواعد العامة .
على انه يتعين التنويه الى ان إجازة التحكيم بعد الحكم بالافلاس فى الحدود المتقدمة انما يكون غالبا بمناسبة عقود ابرمها المدين قبل الحكم بإفلاسه اما بعد حكم الافلاس فالفرض ان يد المدين قد غلت عن إدارة أمواله او التصرف فيها ، ولهذا فليس بمقدوره أبرام اتفاقات تحكيم ، ومع ذلك فقد تسأل بعد الفقه الفرنسى عن حكم اتفاقات التحكيم التى تتم بعد حكم الافلاس ؟
وبخصوص هذا التساؤل الأخير فقد ذهب بعض الفقه الى انه لا أهمية (عند أجازة التحكيم فى المسائل التى تخرج عن الاختصاص الشامل لمحكمة الافلاس) لتاريخ نشأة النزاع ولا حتى لتاريخ إبرام العقد ، ولكن المهم هو ألا تجد المنازعة أصلها فى تطبيق قواعد الافلاس . وبمعنى آخر فمتى خرجت المنازعة عن اختصاص محكمة الافلاس أصبح التحكيم بشأنها جائزا حتى لو كانت تتعلق بعقد تم بعد الحكم بالافلاس .
والواقع ان هذا التحليل يمكن قبوله فى فرنسا ، سيما اذا ما تعلق الامر بالتسوية القضائية ، حيث يكون الهدف هو “إنهاض” او إصلاح أحوال المشروع بما يعنيه ذلك من الاستمرار فى العقود القائمة ، بل ومكنه ابرام عقود جديدة تتضمن شرط تحكيم بمساعدة السنديك . اما حيث يتعلق الامر بتصفية أموال المدين فى فرنسا ، او بالافلاس فى مصر ، فان الهدف يتغير ليصبح حصر أموال المدين وتوزيعها على الدائنين ، ولهذا يصبح الاستمرار فى العقود القائمة استثناء ويصبح ابرام عقود جديدة تتضمن شرط التحكيم أمر غير ذات معنى .
وعلى الرغم مما ينطوى عليه هذا التحليل من منطق الا ان أنصار الرأى السابق يذهبون الى القول بانه ليس هناك ما يمنع السنديك ، حتى فى أحوال تصفية اموال المدين ، من ابرام عقود جديدة تتضمن شرط التحكيم ، فطالما ان القانون قد أجاز له الاستمرار فى العقود القائمة فبمقدوره كذلك ابرام عقود جديدة تتضمن شرط التحكيم . وهذا ما سنوضحه حالا .
ثانيا : صحة اتفاقات التحكيم التى تتم بعد حكم الافلاس استنادا الى نصوص الافلاس ذاتها :
خولت أغلب تشريعات الافلاس بنصوص صريحة للسنديك مكنه اللجوء الى التحكيم فى منازعات التفليسة ، غير ان أغلب هذه النصوص مازالت فى حاجة لكثير من الدراسة سواء لتحديد شروطها او ضبط نطاقها .
1- النصوص القانونية التى تجيز للسنديك اللجوء للتحكيم :
كانت المادة 279 من قانون التجارة المصرى الملغى ، وكذلك المادة 487 من تقنين التجارة الفرنسى الملغى ، تجيز السنديك ان ينهى بطريق الصلح جميع المنازعات التى يكون للتفليسة شأن فيها ولو كانت تلك المنازعات متعلقة بالحقوق او الدعاوى الخاصة بالعقارات ، وكان السائد ان هذه النصوص ، وان أجازت للسنديك الصلح فى كل نزاع يتعلق بالتفليسة ، الا انها لا تجيز له اللجوء الى التحكيم لانهاء هذه المنازعات .
وبمقتضى مرسوم 20 مايو 1955 أجاز المشرع الفرنسى لأول مرة للسنديك اللجوء الى التحكيم بنفس الشروط والضوابط التى تسرى حال لجوءه الى الصلح . ثم كرس المشرع هذا الحكم بموجب المادة 82 من قانون 13 يوليه 1967 الذى نص فى مادته 82 على ” مكنة السنديك ، بعد موافقة قاضى التفليسة ، اللجوء للتحكيم والصلح فى كل نزاع يتعلق بالتفليسة حتى ولو كان النزاع خاصا بحقوق او دعاوى عقارية .
وبرغم اختلاف الفقه الفرنسى حول هذا النص سيما حول نطاق أعماله ، ومدى انطباقه فى حالات القضائية ، على اعتبار انه قد ورد ضمن النصوص المنظمة لتصفية أموال المشروع ، الا ان المشرع قد أبقى عليه فى قانون 25 يناير 1985 مع بعض التغيرات البسيطة فى الصياغة حيث استبدل مصطلح أمين التفليسة .
وفى مصر جاء قانون التجارة الجديد بحكم ، يبدو انه مأخوذ من نص المادة 82 من القانون الفرنسى السابق الاشارة اليها ، حيث نصت المادة 644 منه على انه ” يجوز لقاضى التفليسة بعد أخذ رأى المراقب وسماع أقوال المفلس او إخطاره ان يأذن لامين التفليسة بالصلح او بقبول التحكيم فى كل نزاع يتعلق بالتفليسة ، ولو كان خاصا بحقوق او دعاوى عقارية ، فاذا كان النزاع غير معين القيمة ، او كانت قيمته نزيد على خمسة ألاف جنيه ، فلا يكون الصلح او قبول التحكيم نافذا الا بعد تصديق قاضى التفليسة على شروطه ..” كذلك أعطت المادة 688 من ذات القانون لامين الاتحاد نفس السلطات وبنفس الضوابط .
وهكذا ، أجازت نصوص الافلاس ذاتها لبعض أشخاص التفليسة مكنة اللجوء الى التحكيم فى كل ما يتعلق بالتفليسة ، ويبقى إيضاح ضوابط ونطاق أعمال هذه النصوص من أهم المسائل التى يتعين بحثها .
2- ضوابط النصوص التى تجيز للسنديك اللجوء الى التحكيم فى مسائل الافلاس :
لا يثير الشروط والضوابط التى تحدد مكنة السنديك فى اللجوء الى التحكيم كثير مشاكل ، اذا يتعين ، وهذا هو الشرط الاساسى ، الحصول على إذن قاضى التفليسة قبل قبول أمين التفليسة للتحكيم .
وقد أوجبت المادة 641 على قاضى التفليسة اخذ رأى المراقب وسماع أقوال المفلس او إخطاره قبل الإذن لامين التفليسة بالصلح او بقبول التحكيم غير انها لم تحدد مدة لذلك ، وكانت المادة 79 من الرسوم الفرنسى الصادر فى 22 ديسمبر 1967 تحدد هذه المدة التى يتعين ان يتم فيها الاخطار بثلاثة أيام تسبق قرار قاضى التفليسة ، غير ان الفقه الفرنسى انتقد هذا التحديد ، على اعتبار ان مدة الثلاثة أيام غير كافية حتى يقوم المفلس بتحضير ملاحظاته على الصلح او التحكيم ولهذا ، فنعتقد بضرورة ان يكون اخطار المفلس قبل ان يصدر قاضى التفليسة قراره بمدة معقولة .
ولقد أضافت الفقرة الثانية من المادة 644 شرطا آخر حين قالت ” فاذا كان النزاع غير معين القيمة ، او كانت قيمته تزيد على خمسة آلاف جنيه ، فلا يكون الصلح او قبول التحكيم نافذا الا بعد تصديق قاضى التفليسة على شروط “.
ويعتبر هذا الذى أوردته الفقرة الثانية شرطا ثانيا لنفاذ الصلح او التحكيم ، بمعنى اخر فمتى كان النزاع غير محدد القيمة او زادت قيمته على خمسة ألاف جنيه فيتعين اولا الحصول على إذن قاضى التفليسة حتى يمكن للسنديك ابرام الصلح او قبول التحكيم ولكن لا يكون هذا الصلح او التحكيم نافذا الا بعد تصديق قاضى التفليسة على شروطه .
هذا وقد أوجبت الفقرة الثانية دعوة المفلس الى الحضور وأوجبت على قاضى التفليسة سماع أقواله ولكنها لم ترتب على اعتراضه اى أثر .
على اى حال ، فان أهم ما يثار بخصوص هذه الشروط وتلك الضوابط هو الجزاء الذى يترتب على مخالفتها ، وقد سبق للفقه الفرنسى ان تعرض لهذه المسألة وهو بصدد شرح المادة 82 من قانون 13 يوليو 1967 وانقسم الرأى بشأنها بين من يرى ان الجزاء هو بطلان اتفاق التحكيم بطلانا نسبيا ، وبين من يرى ان الجزاء هو عدم الاحتجاج باتفاق التحكيم حال إتمامه بالمخالفة لهذه الضوابط ، فى حين اتجه آخرون الى تخفيف هذا الخلاف بالقول بأنه من الناحية العلمية لا توجد فوارق كبيرة بين القول بالبطلان النسبى او عدم الاحتجاج .
ومن جانبنا فاننا نعتقد ان عدم حصول السنديك على اذن قاضى التفليسة ، او عدم أخذ هذا الاخير رأى المراقب وسماع أقوال المفلس او إخطاره يرتب عليه البطلان . اما عدم تصديق قاضى التفليسة على شروط الصلح او التحكيم اذا كان النزاع غير محدد القيمة او كانت قيمة تزيد على خمسة الاف جنيه فيترتب عليه ، وبصريح نص الفقرة الثانية من المادة 644 ، عدم نفاذ الصلح او التحكيم .
3- نطاق النصوص التى تجيز للسنديك اللجوء للتحكيم :
يثير تحديد نطاق النصوص المنظمة لسلطة السنديك فى اللجوء الى التحكيم عدة تساؤلات على قدر كبير من الأهمية . اذ على ضوء الاجابة على هذه التساؤلات تتخذ سلطة السنديك فى هذا الخصوص .
أ- هل تقتصر سلطة السنديك على قبول التحكيم فحسب ؟
ولعل اول ما يثار فى هذا الصدد هو مدلول العبارة التى أوردتها المادة 644/1 والتى تقول ” يجوز لقاضى التفليسة .. ان يأذن لامين التفليسة ” بقبول التحكيم” فهل تعنى هذه العبارة حصر سلطة السنديك فى ” قبول التحكيم” الذى يعرضه الطرف الاخر فى منازعة متعلقة بالتفليسة ؟ ام بمقدور السنديك ان يطلب هو الإذن بالاتفاق على التحكيم مع الطرف الاخر ؟
وتختلف هذه الصياغة من تلك التى أوردتها المادة 822 من القانون الفرنسى السابق الاشارة اليه ، فهذه الأخيرة تنص على السنديك يمكنه الاتفاق على التحكيم ولهذا لم يثار هذا التساؤل فى الفقه الفرنسى .
والواقع ان ظاهر نص القانون المصرى يفيد بحصر سلطة السنديك فى ” قبول التحكيم” الذى يعرضه الطرف الاخر بدليل ان النص قد نظم سلطة السنديك فى الصلح وفى التحكيم فى عبارة واحدة ولكن بأسلوب مختلف حيث أجاز لقاضى التفليسة ان يأذن للسنديك ” بالصلح” او ” بقبول التحكيم” ولم يقل او بالتحكيم .
ولعل ما يعضد هذا التفسير ان التحكيم فى منازعات الافلاس أمر حديث وغير مألوف ، ولهذا فيتعين حصره فى أضيق الحدود ، وليس من الملائم التوسع فيه وإعطاء السنديك ، وهو الأمين على مصلحة التفليسة والعمل على تركيز كافة المنازعات المتعلقة بها امام القضاء الذى أًصدر حكم الافلاس ، مكنة تشتيت منازعاتها .
على انه يمكن القول أيضا ان هذه العبارة تفيد سلطة السنديك بقبول التحكيم بشأن العقود التى كان المفلس قد أبرمها قبل الحكم بإفلاسه مما يعنى من ناحية أخرى منع السنديك من إبرامه عقود جديد تتضمن شرط تحكيم .
ب- حدود سلطة السنديك فى قبول التحكيم .
اما التساؤل الثانى الذى يثار فى هذا الصدد فيتعلق بحدود سلطة السنديك فى قبول التحكيم ، هل تشمل هذه السلطة كل المنازعات التى تتعلق بالتفليسة ولو كانت تدخل فى اختصاص محكمة الافلاس ؟ ام انها تنحصر فى المنازعات التى تخرج عن اختصاص هذه المحكمة ؟ وبمعنى آخر هل قبول السنديك للتحكيم جائز حتى ولو تعلق الامر بالنظام العام ؟
لقد سبق للفقه الفرنسى ان تعرض لهذا التساؤل بمناسبة تعليقه على المادة 82 السابق الاشارة اليها ، وانقسم الرأى بشأنه الى اتجاهين :
الرأى الاول : ويذهب أنصاره الى ان المادة 82 قد خولت السنديك سلطة اللجوء للتحكيم بصفة عامة ، او بدون اى تحفظات فى ” كل المنازعات التى تهم بالتفليسة ” وفى ظل هذا النص فان النصوص التى كانت تخول محكمة الافلاس الاختصاص بكافة ما يثيره الافلاس من منازعات لم لها ما يبررها ، وبمعنى آخر فان اختصاص محكمة الافلاس بكافة المنازعات المتعلقة به لم يعد مقبولا اليوم .
ولا يرى أنصار هذا الرأى فى تحليلهم السابق أية خطورة على الأهداف التى يرمى اليها نظام الافلاس ، فالاتفاق على التحكيم لا يكون صحيحا الا بعد اذن قاضى التفليسة او موافقة محكمة الافلاس ، على حسب الاحوال ، وفى هذا ضمانا كافيا لإشراف محكمة الافلاس على كل ما يتعلق به .
وعلى عكس هذا الرأى يذهب أنصار الرأى الثانى الى ان نص المادة 82 ، ويقابلها نص المادة 644 مصرى ، لم يهتم الا بالشروط والضوابط التى يتعين على السنديك مراعاتها حال لجوءه للتحكيم ولا شأن له بمسألة المنازعات التى تقبل او لا تقبل التحكيم . وبمعنى آخر فان تحديد المنازعات التى يجوز للسنديك اللجوء بشأنها الى التحكيم تحكمه قاعدة أخرى هى قاعدة اختصاص المحكمة التى أصدرت حكم الافلاس بما يتعلق به من منازعات ، وهو قاعدة متعلقة بالنظام العام ، وبالتالى لا يجوز اللجوء بشأن هذه المنازعات للتحكيم .
وهكذا ، يخلص هذا الرأى الى حصر سلطة السنديك فى اللجوء للتحكيم فى المسائل التى لا تتعلق بالنظام العام على النحو المتقدم . اما ما يثيره أنصار الرأى الاول من أن إجازة التحكيم فى كل ما يتعلق بالتفليسة من منازعات لا ينطوى على أية خطورة على الأهداف التى يرمى اليها نظام الافلاس ، فيرى أنصار هذا الرأى ان استبعاد التحكيم فى هذه المسائل ليس مرجعه كفاية او عدم كفاية الضمانات التى تتمثل فى رقابة محكمة الافلاس ولكن مرجعه ” ضرورة تركيز كافة المنازعات فى يد المحكمة التى أصدرته ” .
وفى اعتقادنا ان هذا الرأى الاخير قد جانبه الصواب عندما بدء بالقول بأن النصوص التى تخول السنديك اللجوء للتحكيم لم تنظم الا الشروط والضوابط التى يتعين على السنديك مراعاتها ، وانه لا شأن لهذه النصوص بمسألة المنازعات التى تقبل التحكيم ، فالواقع ان نصوص القانون الفرنسى ، كذلك القانون المصرى ، صريحة فى تخويل السنديك مكنة اللجوء الى التحكيم ، او قبول التحكيم ” فى كل نزاع بالتفليسة ولو كان خاصا بحقوق او دعاوى عقارية ” وليس من شك فى ان كل تخصص لعبارات النص ” كل نزاع ” ، سوف يكون بلا سند من النصوص .
زد على ذلك ان تحديد سلطة السنديك فى قبول التحكيم فى المنازعات التى تخرج عن اختصاص محكمة الافلاس لم يكن بحاجة لنصوص خاصة ، فهذه المنازعات وقد خرجت من اختصاص محكمة الافلاس فان أمر اللجوء بشأنها للتحكيم من عدمه يخضع للقواعد العامة على نحو ما أسلفنا .
التنسيق بين اجراءات الافلاس
والتحكيم حال تعارضهما
أوضحنا فيما سبق كيف ان العلاقة بين التحكيم والافلاس ليست ، كما يمكن للمرء ان يتصور للوهلة الاولى ، علاقة فصام دائم ، ورأينا انه ، فى أحيان كثيرة ، يتعايش النظامان ، الافلاس والتحكيم ، معا بل وتنظم القواعد القانونية ذاتها هذا التعايش .
والحقيقة ان تعايش النظامين معا فى الحدود التى سمح بها القانون ، سواء بنصوص خاصة او أعمالا للقواعد العامة ، لا يثير مشكلة ما ، فعندما يجيز القانون للسنديك مثلا قبول التحكيم فى كل نزاع يتعلق بالتفليسة (م 644 /1 من قانون التجارة ) فان قواعد القانون (م644/2 ) هى أيضا التى تنظم مثل هذا التعايش .
وهكذا ، فان إشكاليات تعايش النظامان تبدو أكثر فى الاحوال التى يتواجد فيها النظامان بشكل عفوى ، ولنقل ، خارج الحدود التى رسمتها القواعد القانونية . وربما زادت هذه الإشكاليات كلما كان التحكيم يجرى فى بلد واتخذت اجراءات بإفلاس أحد أطراف هذا التحكيم فى بلد آخر .
ويثير هذا الفرض الاخير تحديدا سؤالين على درجة كبيرة من الاهمية : الاول يتعلق بمصير التحكيم بعد رفع دعوى شهر افلاس ضد أحد أطرافه ، اى أطراف هذا التحكيم . اما الثانى فيتعلق بالحل الواجب إتباعه فيما صدر حكمين أحدهما بالافلاس من القضاء والاخر فى مسألة متعلقة بالافلاس من التحكيم ضد نفس الشركة او الشروع .
لقد استقر الرأى ، على أولوية قواعد الافلاس فى التطبيق لتعلقها بالنظام العام ، وتقضى هذه الاولية اولا – وقف اجراءات التحكيم طالما افتتحت اجراءات بالافلاس ضد أحد أطرافه وثانيا : إعلاء الحكم الصادر بالافلاس على حكم التحكيم متى تعارضا ، ونفصل الكلام فى هاتين النقطتين .
وقف اجراءات التحكيم على
أثر صدور حكم بإفلاس احد أطرافه
المحنا ان الرأى مستقر على أولوية قواعد الافلاس على وقواعد التحكيم ، وهذه الأولوية تقتضى بلا شك وقف اجراءات التحكيم متى صدر حكم بشهر افلاس أحد أطرافه أعمالا لمبدأ وقف الدعاوى والاجراءات الانفرادية ، الذى يعتبر وفقا لبعض الفقه ، وأحكام القضاء من المبادئ المتعلقة بالنظام العام الوطنى والدولى على حد سواء .
المطلب الاول
النقاش حول انطباق مبدأ وقف الدعاوى على التحكيم
اولا مضمون المبدأ والحكمة منه ” أحالة “
من المبادئ المستقرة انه متى صدر حكم بشهر الافلاس فلا يجوز أقامة دعوى من المفلس او عليه او السير فى دعاوى كانت قائمة .
وقد نصت على ذلك المادة 594 من القانون التجارى فقالت : ” 1- لا يجوز بعد صدور حكم شهر الافلاس رفع دعوى من المفلس او عليه او السير فيها .. ” والى نفس المعنى ذهبت المادة 47 و48 من القانون الفرنسى ، وغيرهما من تشريعات الافلاس .
ولقد أفصحت محكمة النقض المصرية فى أكثر من مناسبة عن هذا المبدأ وعن الحكمة منه فقالت فى احد أحكامها ان ” صدور حكم إشهار الافلاس يستتبع قانونا غل يد المفلس عن إدارة أمواله فلا تصح له مباشرة الدعاوى المتعلقة بتلك الأموال حتى تضار كتلة دائنيه من نشاطه القانونى فيما يمسهم من حقوق … ” .
والواقع ان هذا المبدأ هو من المبادئ الأساسية التى تناولتها الشروح الفقهية بالتفصيل ولهذا فنحيل القارئ اليها ، للتكرار .
ومع ذلك فلا شك ان منع المدين من التقاضى ، ووقف الدعاوى المرفوعة منه او عليه ، قصد به أصلا الدعاوى المرفوعة امام القضاء العادى ، ولهذا فان السؤال الذى يثار يتعلق بمدى انطباق هذه النصوص على الدعاوى المرفوعة امام التحكيم ؟
ثانيا : التأكيد على انطباق المبدأ على اجراءات التحكيم والأساس القانونى لذلك .
الواقع ان أغلب الفقه الفرنسى الذى تصدى لهذا الموضوع ، بل وبعض أحكام القضاء ، يرى انطباق هذه النصوص على الدعاوى المرفوعة امام التحكيم ، وهو ما نفضله أيضا سيما اذا كان حكم الافلاس قد صدر من القضاء الوطنى وكان التحكيم يجرى بدوره فى مصر ، وذلك لتعلق هذه المبادئ بالنظام العام .
وربما يدق الامر بعض الشئ فى الاحوال التى يجرى فيها التحكيم بالخارج ، ويصبح السؤال المطروح هو هل تلتزم محكمة التحكيم فى هذه الحالى بوقف التحكيم نظرا لصدور حكم بشهر افلاس احد أطرافه ؟ وما هو ، اذا كان الاجابة بالإيجاب ، أساس التزامها بذلك ؟
ولعل السبب فى صعوبة هذا الفرض هو ما يردده الفقه عادة من ان التحكيم التجارى الدولى ، على عكس القاضى ، غير مرتبط بقانون وطنى محدد ، الا ذلك الذى يختاره الاطراف او يختاره هو . وبالتالى فالمحكم ، من وجهة نظر هذا الفقه ، غير ملزم باحترام القوانين الاخرى .
وترتيبا على ذلك فاذا كان أطراف التحكيم قد اتفقوا على تطبيق قانون دولة معينة على التحكيم ، ثم صدر حكم بإشهار افلاس احد الاطراف من قضاء دولته ، فان التحكيم ، إعمالا للرأى المتقدم ، غير ملزم باحترام قانون الدولة التى أصدرت حكم الافلاس .
ويبدوا ان بعض أحكام التحكيم قد سارت فعلا فى هذا الاتجاه ، ففى حكم أصدرته هيئة تحكيم ، اتخذت من سوريا مقرا لها ، فى مواجهة مشروع فرنسى كان قد وضع فى حالة تسوية قضائية على أثر حكم بذلك من القضاء الفرنسى ، ذهبت محكمة التحكيم الى انه ” أيا كان الوضع فى القانون الفرنسى ، فان محكمة التحكيم ، وقد حدد مقرها بدمس ، وكانت ملتزمة بتطبيق القانون السورى ، تعتبر ان مهمتها لن تتأثر بحكم التسوية القضائية الذى صدر لاحقا بفرنسا ” .
والحقيقة ان مثل هذا الاتجاه لا يمكن قبوله ، لانه يعبر فى النهاية عن نظرة غير واقعية ، تتجاهل تماما ان احكام التحكيم لا يمكن تنفيذها الا اذا كانت لا تتعارض مع النظام العام فى البلد المراد الامر بتنفيذها فيه . ولهذا فعلى المحكم ان يفعل كل ما بوسعه حتى لا يصبح قراره فى النهاية مجرد حبر على ورق ، وبعبارة أخرى عليه ان يأخذ فى اعتباره الرقابة التى يباشرها قضاء الدولة المراد تنفيذ الحكم فيها ، على حكمه من حيث مدى اتفاقه او تعارضه مع النظام العام.
ويبدو ان قرار التحكيم السابق قد تنبه لهذه الحقيقة فعاد وذكر بان التصفية القضائية للمشروع الفرنسى الذى صدر قرار التحكيم فى مواجهة تعرض للخطر ، او تقلل فرص ، حصول المدعى على تسوية لديونه .
المطلب الثانى
الاتجاه نحو عولمة مبادئ الافلاس
لفرضها على التحكيم الدولى
ولعل الاعتبارات المتقدمة مجتمعة هى التى دعت القضاء الفرنسى الى إلزام هيئات التحكيم بوقف الدعوى المرفوعة أمامها فى الاحوال التى تفتح فيها اجراءات بإفلاس احد أطراف هذا التحكيم ، سواء كان هذا التحكيم وطنيا ام دوليا . فاحترام المبادئ الأساسية فى مجال الافلاس هو امر واجب على هيئات التحكيم ، وذلك لتعلق هذه المبادئ ، ليس فقط بالنظام العام الفرنسى ، ولكن أيضا بالنظام العام الدولى .
وتطبيقا لما تقدم قضت محكمة النقض الفرنسية فى 8 مارس 1988 بإلغاء حكم تحكيم كان قد أدان احدى الشركات وإلزامها بدفع مبلغ معين بالرغم من أنها كانت فى حالة تصفية قضائية .
وفى مناسبة أخرى أعلنت محكمة باريس ان قاعدة وقف الدعاوى والاجراءات الانفرادية فى مجال الافلاس تعتبر من النظام العام الدولى ، وهى واجبة التطبيق فى جميع الحالات التى تجد فيها الطلبات المقدمة للمدين أسبابها قبل افتتاح اجراءات الافلاس .
ويعتبر حكم النقض الفرنسية الصادر فى القضية الشهيرة من أكثر تطبيقات القضاء الفرنسى أهمية فى هذا الخصوص ، على اعتبار ان المحكمة قد صاغت فى هذا الحكم المبدأ العام الذى يسرى على التحكيم ولو لم يكن خاضعا للقانون الفرنسى حيث قالت ان ” مبدأ وقف الدعاوى والاجراءات الانفرادية من قبل الدائنين ، وغل يد المدين ، وانقطاع الدعاوى فى حالة الافلاس ، هى من النظام العام الداخلى والدولى معا ، وهى واجبة الاحترام حتى فى الاحوال التى يجرى فيها التحكيم بفرنسا ، ولا يكون خاضعا للقانون الفرنسى ” .
وهكذا ، وآيا كان الرأى حول فكرة النظام العام الدولى ، يبدو الامر فى النهاية وكأن تدويل او عولمة قواعد الافلاس هو السبيل الوحيدة امام القضاء لحل احدى أهم إشكاليات الافلاس الدولى وهى تعارض إجراءاته .
أولوية الحكم الصادر بإشهار
الافلاس حال تعارضه مع التحكيم
أسلفنا ان قواعد الافلاس ، بما تشمله من ضرورة وقف الدعاوى المرفوعة من المفلس او عليه ، تفرض نفسها على التحكيم ، سواء كان وطنيا او دوليا ، وذلك لتعلق هذه القواعد بالنظام العام الوطنى والدولى على نحو ما أشرنا .
غير انه قد يحدث ، لسبب او لأخر ، ان تسير دعوى التحكيم الى نهايتها فيصدر فيها حكم ، وذلك لان هيئة التحكيم لم تعتد بإجراءات الافلاس التى افتتحت امام القضاء الوطنى على نحو ما ذهبت لذلك بعض قرارات التحكيم ، وأما مسألة افلاس احد الاطراف لم تثار ، لسبب او لأخر ، امام التحكيم ، فما مصير هذا الحكم فيما لو تعارض مع حكم الافلاس ؟ ولايهما تكون الأولوية فى التطبيق .
وبشكل أكثر تحديدا فلو اقترضنا ان احدى الشركات قد صدر حكم بشره إفلاسها من القضاء الوطنى وكانت فى نفس الوقت طرفا فى نزاع منظور امام التحكيم ، وصدر حكم من هيئة التحكيم بإلزامها بدفع مبلغ معين ، فأى حكم يكون واجب النفاذ حكم الافلاس بما يترتب عليه من منع المفلس من الوفاء بما عليه أعمالا للمادة 590 تجارى ، ام حكم التحكيم وبالتالى التزام هذه الشركة بدفع ما قضى به ؟ .
لقد تصدت المحكمة الدستورية العليا لمسألة التعارض بين حكم التحكيم وحكم صادر من جهة القضاء العادى وذلك فى القضية رقم 8 لسنة 22 قضائية وقضت بجلسة 4 أغسطس 2001 بأن ” قضاء هيئة التحكيم – دون الحكم من وجهة القضاء العادى – يكون هو الأحق بالتنفيذ : .
ولسنا نظن انه يمكن الاستناد الى حكم المحكمة الدستورية العليا ، السابق ، للقول بأولوية أحكام التحكيم فى التنفيذ على أحكام القضاء العادى فى مسائل الافلاس .
فالحكم المتقدم لا يكرس ، فى رأينا مبدأ عاما ، ولكنه أراد قط قضى التناقض بين حكمين تعامدا على محل واحد هو الشيك المتنازع عليه . وكان الطرفان قد اتفقا على فض ما يثور بينهم من منازعات عن طريق التحكيم ، وبالفعل أصدرت هيئة التحكيم حكمها فى 31/10/1995 بإلزام الشركة المدعى عليها الثالثة ان تعيد الشيك محل النزاع الى المدعى ، وقد أصبح هذا الحكم واجب النفاذ ، على حد تعبير المحكمة الدستورية العليا ، برفض الدعوى ببطلانه . وعلى ذلك ” فان جهة القضاء العادى اذا عادت – وهى بصدد الفصل فى الادعاء المباشر – الى بحث انشغال ذمة المدعى بمقابل وفاء الشيك محل الدين ذاته ، بعد صدور قضاء نهائى من الجهة المختصة برد ذلك الشيك الى صاحبه ، وصيرورة يد المستفيد عليه يدا عارضة بما لا يبيح له التقدم لصرف قيمته فى ميعاد استحقاقه ، تكون قد سلبت اختصاصها محجوزا لهيئة التحكيم برضاء طرفى مشارطته وفى حدود القانون … ” .
وهكذا يبدو ان قضاء المحكمة الدستورية العليا قد رأى ان صدور حكم من هيئة تحكيم ارتضا الطرفان اللجوء اليها لفض ما يثور من منازعات ثم صيرورة هذا الحكم واجب النفاذ يسلب القضاء العادى اختصاصه بما لا يجيز له ، اى لهذا القضاء ، التصدى لذات المسألة مرة أخرى .
والى هذا الحد يمكن تفهم موقف المحكمة الدستورية العليا ، وذلك على الرغم من تحفظنا عليه ، والى هذا الحد أيضا يمكن القول بأولوية أحكام التحكيم فى النفاذ طالما صدر حكم التحكيم من الجهة التى ارتضاها الطرفان وأصبح واجب النفاذ ، الامر الذى لا يجوز بعده للقضاء العادى اعادة الفصل فى ذات النزاع مرة أخرى .
اما مسائل الافلاس الدولى فان الامر جد مختلف ولا يمكن بحال من الاحوال ، تعميم قضاء الدستور العليا السابق الاشارة اليه ، فالفرض هنا ان حكما بالافلاس قد صدر ضد احد أطراف دعوى تحكيم تجرى فى الخارج ، والأصل ان تقف دعوى التحكيم ، لان وقف الدعوى بعد صدور حكم بالافلاس هو قاعدة او مبدأ يتعلق بالنظام العام الدولى ، فاذا ما تمادت هيئة التحكيم فى الدعوى ولو تلتفت الى حكم الافلاس الذى صدر ، فليس معنى ذلك ان هذا الحكم يكون واجب النفاذ ، ذلك لان حكم التحكيم الصادر من هيئة فى الخارج لا يمكن تنفيذه بالداخل الا بعد الامر بتنفيذه ، وهذا الامر لا يمكن إعطاؤه من القضاء الوطنى الا بعد التحقيق من ان الحكم لم يخالف النظام العام المعمول به داخل الدولة ، وفى الفرض محل الدراسة فان حكم التحكيم يكون مخالف قواعد النظام العام الوطنى والدولى على حد سواء ، وذلك على نحو ما قدمنا .
اما فى الاحوال التى يكون حكم التحكيم قد صدر قبل افتتاح اجراءات الافلاس وأصبح واجب النفاذ ، وهو الفرض القريب من ذلك الذى تصدت له المحكمة الدستورية ، فلا نرى مانعا من تنفيذ ذلك الحكم ، كل ما فى الامر ان المشكلة ستكون حينئذ هى اشتراك الدائن الذى قضى له بحكم التحكيم فى التفليسة .