الاتجاهات الحديثة للتحكيم التجارى الدولى
فى قانون التحكيم المصرى
دراسة مقدمة من
المستشار / نجوى محمد الصادق مهدى
نائب رئيس هيئة النيابة الادارية
مقدمة
افتتحت مصر فى مطلع الثمانينات سياسة جديدة هدفها رؤوس الاموال العربية والأجنبية للنهوض والمشاركة فى مشروعات التنمية فى البلاد ، وذلك عن طريق إصدار قوانين للاستثمار تتضمن المميزات والحوافز وعناصر الثقة ما يهيىء مناخا اقتصاديا أمنا مريحا لرؤوس الاموال الوافدة على البلاد لتعمل وتثمر وتفيد وتستفيد .
وتبين من اللحظة الاولى ان قانون الاستثمار وحده لا يحقق الهدف الا اذا صاحبته تشريعات أخرى تكمله وتؤكد ما يطرحه من ميزات فكانت القوانين وتعديلات القوانين الخاصة بالرقابة على النقد وسعر الصرف وسرية المعاملات المصرفية وغيرها . وظل موضوع فض المنازعات التى تنشأ تبين المستثمر وشريكه او عميلة فى الاستثمار دون تنظيم وغم ما لهذا الامر من اعتبار خاص فى نظر المستثمر الأجنبى الذى يهمه ويطمئنه ان يجد عند قيام النزاع للفصل فيه يسير على القواعد والأصول التى استقرت فى المعاملات التجارية الدولية . ولما كان التحكيم هو الاسلوب السائد فى هذه المعاملات التجارية الدولية فقد أولته الحكومة اهتماما خاصا ، لا سيما بعد ما تبين من قصور فى قواعد التحكيم المذكور فى قانون المرافعات المدنية والتجارية التى وضعت خصيصا للتحكيم الداخلى دون ان تأخذ فى الاعتبار طبيعة المنازعات التجارية الدولية ومتطلبات فضها مما دفع وزارة العدل الى إصدار القانون رقم 27 لسنة 1994 فى شأن التحكيم فى المواد المدنية والتجارية فى 18 ابريل 1994 الذى نشر فى الجريدة الرسمية بتاريخ 21 ابريل سنة 1994 على ان يعمل به بعد شهر من اليوم التالى لتاريخ نشره ، الا اعتبارا من 23 مايو سنة 1994 .
وقد وضع مشروع هذا القانون بمعرفة لجنة شكلها قرار من وزير العدل . وقد اعتمدت اللجنة على مشروع تمهيدى أعده الاستاذ الكبير رئيس اللجنة مستهديا فى ذلك بالقانون النموذجى للتحكيم التجارى الذى وضعته لجنة الامم المتحدة لقانون التجارة الدولية ( الانستيترال UNCITRAL ) سنة 1985 ويعد ان استمر عمل اللجنة ما يزيد على خمس سنوات انتهت الى وضع مشروع لقانون للتحكيم التجارى الدولى معتمدة على القانون النموذجى الدولى مع بعض تعديلات وإضافات ليتفق ويلائم النظام القانونى المصرى ، رؤى ان يعالج المشروع الجديد ايضا نظام التحكيم الداخلى الذى تحكمه المواد من 501 الى 512 من قانون المرافعات المدنية والتجارية وليعالج النقائض الموجودة فى المواد المشار اليها ، بحيث يصدر قانون واحد ينظم التحكيم الدولى والداخلى معا ، ولذلك تقرر ضم بعض المتخصصين فى قانون المرافعات الى اللجنة لإعادة النظر فى المشروع ودمج نوعى التحكيم فى مشروع واحد .
وقد صدر قانون التحكيم الجديد بعد اتمام الدمج المشار اليه ونص على الغاء المواد 501 الى 513 من قانون المرافعات المدنية والتجارية ، كما نص على الغاء اى حكم مخالف لأحكامه .
ولما كان موضوع هذه الدراسة هو المشكلات العملية فى قضايا التحكيم وهو ما يقتضى او إلقاء الضوء بصورة موجزة على احكام القانون رقم 27 لسنة 1994 لذلك سوف تتقسم الدراسة الى قسمين :
الاول : يخصص لعرض موجز لمحتويات قانون التحكيم فى المواد المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 27 لسنة 1994 .
والثانى : يعالج المشكلات العملية فى قضايا التحكيم .
أولا : عرض موجز لمحتويات قانون التحكيم فى المواد المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 27 لسنة 1994
يشمل القانون سبعة أبواب ثمان وخمسين مادة ، ويتعلق الباب الاول بقواعد عامة تتناول موضوعات متفرقة يأتى فى مقدمتها تحديد نطاق تطبيق أحكام القانون الذى عينته المادة الاولى بعد ان رجحت احكام الاتفاقيات المعمول بها فى مصر بسريان تلك الاحكام على كل تحكيم تجارى دولى يجرى فى مصر سواء كان احد طرفيه من اشخاص القانون العام او اشخاص القانون الخاص ، فحسم المشروع ذلك الشكوك التى دارت حول مدى خضوع بعض انواع العقود التى يكون احد طرفيها من أشخاص القانون العام للتحكيم ، فنص على خضوع جميع المنازعات الناشئة عن هذه العقود لاحكام هذا القانون أيا كانت طبيعة العلاقة القانونية التى يدور حولها النزاع .
وحتى يقيد أطراف عقد المعاملات التجارية من الاحكام الحديثة التى تصمنها هذا القانون ولو لم تكن العقود المبرمة بينهم منطبقا عليها وصف ” الدولية ” فقد نص القانون فى الفقرة الثانية من المادة الاولى على حقهم فى الاتفاق على اخضاع معاملاتهم لأحكامه .
وحرصا من القانون على انطباق أحكامه على كل انواع عقود المعاملات الدولية بالاستثمار أيا كان تصنيفها وفقا لاحكام القانون الداخلى ، نصت المادة الثانية منه على ان يكون التحكيم تجاريا ” اذا نشأ النزاع حول علاقة قانونية ذات طابع تجارى ، عقدية كانت او غير عقدية ، وأوردت على سبيل المثال عددا من تلك العلاقات القانونية التى تعتبر من قبيل الاعمال التجارية فى نطاق تطبيق هذا القانون ، غنى عن البيان تعريف ” التجارية ” فى هذا القانون يجاوز الحدود التى رسمها قانون التجارة للأعمال التجارية فى المعاملات التجارية الداخلية .
وفى تحديدها لمعنى التحكيم الدولى بينت المادة (3) من القانون الحالات التى يعد فيها التحكيم “دوليا” وفقا لاحكامه ، أخذه فى هذا الخصوص بوجهة النظر التى اعتمدها القانون النموذجى للتحكيم التجارى الدولى .
وتيسيرا على أطراف التحكيم عقدت المادة (9) من القانون الاختصاص لمحكمة استئناف القاهرة بنظر المسائل التى يحيلها القانون الى قضاء الدولة وجعل من هذه المحكمة “سلطة تعيين” تستكمل تشكيل محكمة التحكيم عندما يمتنع احد الطرفين من الإسهام فى الامر بموجب اتفاق التحكيم او نص فى القانون .
وفى الباب الثانى يتناول القانون اتفاق التحكيم فيعرفه ، ويجيز إبرامه قبل قيام النزاع وبعد قيامه ، ويشترط وقوعه بالكتابة ، ويبين المعنى المقصود من الكتابة ، ولعل أهم ما جاء فى هذا الباب هو المادة (13) التى تؤكد مبدأ الاعتراف باتفاق التحكيم بما يعنيه من نزول طرفيه عن حقهما فى الالتجاء الى القضاء العادى وفى الخضوع لولايته بشأن منازعتهما ، فتلتزم محاكم الدولة التى يرفع اليها نزاع يوجد بِِشأنه اتفاق تحكيم ، ان تحكم بعدم قبول الدعوى بشرط ان يدفع المدعى بهذا الدفع قبل إبداء أى طلب او دفاع فى الدعوى .
وفى الباب الثالث بتكلم القانون فى تنظيم محكمة التحكيم ، كيف تشكل وكيف تتم تسمية المحكمين ، والشروط التى يجب توافرها فى المحكم واجراءات رده وترك المشروع لارادة الطرفين فى كل هذه الامور مجالا رحبا للاتفاق ولكنه أقام محكمة الاستئناف السابق ذكرها لتكون سلطة لملء الفراغات التى تنشأ عن عدم وجود الاتفاق او عدم تنفيذه . وأهم ما ورد فى هذا الباب هو التأكيد على قاعدتين من ركائز نظام التحكيم .
الاولى : منح محكمة التحكيم سلطة الفصل فى الدفوع الخاصة بعدم اختصاصها وهو ما يعرف فى فقه التحكيم باسم ” اختصاص الاختصاص ” (المادة 23) .
الثانية : استقلال شرط التحكيم الذى يكون جزءا من عقد عن شروط هذا العقدة الاخرى بحيث لا يصيبه ما قد يصيب العقد من احتمالات الفسخ او أسباب البطلان المادة (23) .
وتأتى بعد ذلك اجراءات التحكيم ويفتتحها الباب الرابع بقاعدة أساسية هى حرية الطرفين فى اختيار قواعد الاجراءات شريطة مراعاة أصول التقاضى ، وفى مقدمتها المساواة بين الطرفين ، وتهيئة فرصة كاملة ومتكافئة لكل منهما لعرض قضيته . ولم ترد قواعد التنظيم الاحتياطى الذى وضعه القانون لمواجهة الفرض الذى لا يتفق فيه الطرفان على قواعد الاجراءات ولوحظ فى هذا التنظيم ترك قدر كبير من الحرية لمحكمة التحكيم لاختيار أنسب قواعد الاجراءات للدعوى .
وتبلغ الاجراءات نهايتها باصدار حكم التحكيم ويتناول الباب الخامس الحكم مبتدئا ببيان القانون الذى يطبق على موضوع النزاع ويقضى بانه قانون الإرادة ، يختاره الطرفان بمطلق الحرية ، فاذا لم ينفقا كان لمحكمة التحكيم اختياره مراعية ملاءمته للدعوى (المادة 39) ، هذا الحل هو الذى يؤيده الفقه الحديث ، ومن هذا الفقه ما يأخذ به على درجتين ، تختار محكمة التحكيم اولا القانون الانسب للدعوى ، ولكنها لا تطبق قواعده الموضوعية وانما قاعدة التنازع فيه ، ثم تقود هذه القاعدة المحكمة الى القانون الواجب التطبيق على الموضوع . وأخذ القانون النموذجى بهذا التدرج ، واستحسن القانون الاختيار المباشر ، فأجاز لمحكمة التحكيم ان تطبق مباشرة القواعد الموضوعية فى القانون الذى ترى انه الانسب للدعوى .
ويلى ذلك بيان كيفية إصدارات حكم التحكيم وإعلانه وإبداعه وتفسيره وتكملته وتصحيح ما قد يقع فيه من أخطاء مادية . وجاء فى هذا الباب عدد من القواعد الاساسية ، ونذكر منها :
- إجازة الاتفاق على ان يكون لمحكمة التحكيم الفصل فى موضوع النزاع على مقتضى قواعد العدالة دون التقيد بأحكام اى قانون (المادة 35 فقرة ثانية ) .
- إجازة إصدار حكم تحكيم ” بشروط متفق عليها ” المادة 41 ويقع هذا اذا اتفق الطرفان خلال اجراءات التحكيم على تسوية النزاع القائم بينهما وطلبا من محكمة التحكيم انهاء الاجراءات بحكم تثبت فيه شروط التسوية .
- إجازة الاتفاق على إعفاء محكمة التحكيم من تسبيب الحكم ، وكذلك إعفائها من ذكر الاسباب اذا كان القانون الواجب التطبيق على اجراءات التحكيم لا يشترط ذكرها (المدة 43 فقرة ثانية ) .
- تحريم نشر حكم التحكيم الا بموافقة الطرفين (المادة 44 فقرة ثانية )، وهو تأكيد لمبدأ سرية التحكيم التى كثيرا ما يعلق عليها الطرفان أهمية خاصة حفاظا على العلاقات التجارية بينهما .
- اجازة طلب استصدار حكم تحكيم اضافى فى طلبات قدمت خلال الاجراءات وأغفلها حكم التحكيم ، وفقا للشروط المبينة بالمادة (51) ، وغنى عن البيان انه تسرى على حكم التحكيم الاضافى ذات الاحكام التى تسرى على حكم التحكيم الاصلى .
وتنتهى مراحل التحكيم بصدور الحكم ، وتبدأ بعد ذلك مرحلة ما بعد الحكم وفيها يبرز موضوعان تناولهما البابان السادس والسابع على التعاقب .
الموضوع الاول : خاص بإبطال حكم التحكيم ، لان هذا الحكم ، وان كان لا يقبل الطعن فيه بالطرق المنصوص عليها فى قانون الرافعات المدنية فانه يخضع للطعن فيه بالبطلان فى حالات عددتها المادة 53 على سبيل الحصر ، ولوحظ فى تعينها المطابقة بينها وبين حالات البطلان المنصوص عليها فى المادة الخامسة من اتفاقية نيويورك السابق ذكرها تحقيقا لوحدة التشريع .
ونص المشروع فى المادة (54) على ان رفع دعوى بطلان حكم التحكيم . يكون خلال التسعين يوما التالية لتاريخ صدور الحكم . وذلك حتى لا تظل أحكام التحكيم مهددة بالطعن فيها لمدة غير محدودة .
الموضوع الثانى : خاص بتنفيذ حكم التحكيم ، وفيه تقرر حجية الحكم فى مصر (المادة 55) وحق من كسب الدعوى فى طلب تنفيذه بعد انقضاء ميعاد التسعين يوما المقرر لاقامة دعوى البطلان . ومع ذلك اذا أقيمت هذه الدعوى خلال الميعاد عاد الى من صدر حكم التحكيم لصالحه حقه الاصلى فى طلب تنفيذ الحكم مباشرة لكيلا يظل سلبيا بعد ان هاجمه خصمه باقامة دعوى البطلان . ولما كان من الأرجح ان يطلب المدعى فى هذه الدعوى وقف تنفيذ الحكم ، الامر الذى يطيل الاجراءات ، فقد استوصيت المادة 56 الفصل فى كل من طلب وقف التنفيذ ودعوى البطلان ، على وجه الاستعجال .
وتناولت المادتين 57،58 اجراءات طلب تنفيذ حكم التحكيم ، الاولى ببيان الجهة المختصة بالفصل فى هذا الطلب والمستندات الواجب تقديمها ، والثانية ببيان شروط منح الامر بالتنفيذ .
ثانيا :المشكلات العملية فى قضايا التحكيم .
وضع صدور قانون التحكيم الجديد رقم 27 لسنة 1994 وتطبيقه على قضايا التحكيم ظهرت بعض المشكلات التى نعالجها فيما يلى :
اولا :نطاق تطبيق القانون الجديد:
تنص المادة (1) من القانون الجديد على أنه مع عدم الإخلال باحكام الاتفاقيات الدولية المعمول بها فى جمهورية مصر العربية تسرى أحكام هذا القانون على كل تحكيم بين اطراف من اشخاص القانون العام او القانون العام أو الخاص أيا كانت طبيعة العلاقة القانونية التى تدور حولها النزاع إذا كان هذا التحكيم يجرى فى مصر ،أو كان تحكميا تجاريا دوليا يجرى فى الخارج واتفق أطرافه على إخضاعه لاحكام هذا القانون .
ويعنى هذا النص ان القانون الجديد يسرى على :
التحكيم الدولى وهو يجرى فى مصر بالضرورة .
- التحكيم الدولى وفقا لمعيار دولية تحكيم المنصوص عليه فى المادة 3 من القانون على نحو ما سنعرض له فيما بعد ، ولو كان هذا التحكيم يجرى فى مصر .
- التحكيم الدولى وفقا للمعيار القانونى الذى سنعرض له اذا كان هذا التحكيم يجرى فى الخارج بشرط ان يتفق اطرافه على اخضاعه للقانون المصرى الجديد .
كما يبين من النص السابق ،ان القانون الجديد يسرى على كل التحكيم كل تحكيم اختياري مهما كانت الطبيعة القانونية لاطراف التحكيم ،اى ان هذا القانون لا يسرى فقط الى التحكيم الذى يجرى بين الاشخاص القانون الخاص سواء كان الشخص طبيعيا او اعتباريا بل يسرى ايضا على التحكيم الذى بين شخص خاص وشخص عام ،او التحكيم الذى يجرى بين شخصين عامين .
وتقضى نص المادة (1) من القانون الجديد ايضا فى تحديد طبيعة النزاع الذى يقبل التحكيم فيه لاحكامه ،بانه يخضع للتحكيم اى نزاع ايا كانت طبيعة العلاقة القانونية التى يدور حولها النزاع ،الا ان هذا الحكم مقيد بما تقضى به المادة (11) من القانون بانه لايجوز التحكيم فى المسائل التى لا يجوز فيها الصلح .
- ويعنى ما تقدم ان الاتفاق على التحكيم وفقا لاحكام القانون الجديد جائز سواء فى العقود المدنية او العقود الادارية او العقود التجارية ،بل ان الاتفاق على التحكيم جائز ايضا وفقا لاحكام المادة 10/1من القانون الجديد ولو كان النزاع ناشئا عن علاقة قانونية غير عقدية ،ذلك ان اتفاق التحكيم يمكن ان يكون سابقا على القيام النزاع سواء كان مستقلا بذاته او ورد فى عقد معين ،كما يجوز ان يقوم الاتفاق على التحكيم بعد قيام النزاع ولو كانت قد أقيمت فى شانه دعوى امام القضاء (المادة 10/3) من القانون الجديد .
ثانيا : جواز التحكيم فى العقود الادارية .
عقب صدور القانون 27 لسنة 1994 فى شان التحكيم فى المواد المدنية والتجارية ثار جدل وخلاف فى الفقه والقضاء المصرى عن جواز التحكيم فى العقود الادارية على اساس ان النص من المادة الاولى من القانون رقم 27 لسنة 1994 لأجازت التحكيم بين اطراف من اشخاص القانون العام بينما يرى الفريق الاخر عدم جواز التحكيم فى العقود الادارية على اساس ما قضت به المادة172 من الدستور من”ان مجلس الدولة هيئة قضائية مستقلة ويختص فى المنازعات الادارية وما قضت به المادة 167 من الدستور من انه يحدد القانون الهيئات القضائية واختصاصاتها ” وانه طالما ان القانون التحكيم لو لم ينص صراحة على جواز التحكيم فى العقود الادارية فانه يقتصر الاختصاص بالمنازعات فى العقود الادارية على مجلس الدولة وفقا تحكيم لاحكام القانون رقم47 لسنة 1972 بشان مجلس وقد حسم المشرع المصرى هذا الجدل باصدار تعديلات قانون التحكيم رقم27 لسنة 1994 بالنص صراحة على جواز التحكيم فى العقود الادارية.
ثالثا : ما المقصود بمعيار التجارية فى القانون الجديد؟
1- الاعمال التجارية وفقا للمعيار التقليدى :
اذا كان قانون التحكيم الجديد يسرى على كل تحكيم ينشا عن علاقة تجارية أى عمل تجارى فان المادة (2) منه تكلفت ببيان المقصود بالتحكيم التجارى وفقا لأحكامها.
وقبل ان نعرض لمعيار التجارية فى القانون الجديد ،فاننا نشير بإيجاز الى معيار التجارية وفقا للقانون الوضعى .
ويستند الفقه التجارى المصرى الى نص المادة (2) من التقنين التجارى المصرى لتحديد معيار العمل التجارى ، واستقر الرأى على الاخذ بمعيار المضاربة الذى ينجلي فى أهم انواع الاعمال التجارية وهو عمليات الشراء لأجل البيع ذاتها قياسا ،كما يستبعد هذا المعيار التصرفات العقارية من نطاق الاعمال التجارية ،ويستبعد ايضا الاعمال الاستخراجية أهمها الزراعة وهى مستبعدة صراحة بنص المادة (3) من التقنين التجارى . وتشمل هذه الاعمال ايضا الثروات الطبيعية بكافة أنواعها .
2 – معيار الاعمال الاقتصادية فى الفقه الحديث :
لا يسلم الفقه الحديث بالنظرية التقليدية للاعمال التجارية ويوجه اليها انتقادات عديدة اذ يرى ان النظرة المجردة الى أعمال معينة ووصفها بالتجارية لا تستقيم مع طبيعة الامور وان كرة الاعمال التجارية لاتكون مقبولة الأمن خلال ربطها بفكرة المشروع . فالأعمال التجارية هى الاعمال التى تقع بمناسبة استغلال مشروع تجارى والذى يشكل وحده اقتصادية تقوم بأنواع الاستغلال الاقتصادى سواء تمثل ذلك فى استغلال تجارى بالمعنى التقليدى او فى استغلال زراعي او استخراجي او صناعي او مالى .
الامر الذى يغنى عن المعيار التقليدى للا عمال التجارية او لمحاولة حصرها او حتى للتفرقة بين ما يعرف بالعمل المدنى والعمل التجارى .
3– موقف قانون التحكيم الجديد :
تنص المادة (3)من القانون الجديد على انه “يكون التحكيم تجاريا فى حكم هذا القانون اذا نشا النزاع حول علاقة قانونية ذات طابع اقتصادى ،عقدية كانت او غير عقدية ،ويشمل ذلك على سبيل المثال السلع او الخدمات والوكالات التجارية وعقود التشييد والخبرة الهندسية او الفنية ومنح التراخيص الصناعية والسياحية وغيرها ونقل التكنولوجيا والاستثمار وعمليات البنوك والتامين والنقل وعمليات تنقيب واستخراج الثروات الطبيعية وتوريد الطاقة ومد أنابيب الغاز والنفط ،وشق الطرق والأنفاق واستصلاح الاراضى الزراعية وحماية البيئة وإقامة المفاعلات النووية .
وتعليقا على هذا النص نورد الملاحظات الاتية :
- أ- حرص النص على تبنى المعيار الحديث لتحديد تجارية العمل ،بقوله ان التحكيم يكون تجاريا اذا نشا النزاع حول علاقة قانونية ذات طابع اقتصادى
لان هذا المعيار يتسع ليشمل ما يعنيه الان اصطلاح “التحكيم التجارى ” والذى لم يعد مقصورا على مفهوم العمل التجارى وفقا للمعيار التقليدى على نحو ما عرضنا أنفا .
وتعبير”طابع اقتصادى “يتضمن جل نشاط يتصل باستثمار رؤوس الاموال والحصول على عائد هذا النشاط يقطع النظر عما اذا كان من قبيل الاعمال المدنية او الاعمال التجارية فى المادتين 2و3 من التقنين التجارى المصرى ،على نحو ما قدمنا ، بل ان بعض الأمثلة التى يتضمنها نص المادة (2) من قانون التحكيم التجارى الجديد يعد فى حكم التقنيين التجارى المصرى من قبيل الاعمال المدنية ومع ذلك فإنها تعد تجارية وفقا لاحكام قانون التحكيم ،من ذلك مثلا عقود الخبرة الهندسية او الفنية وعمليات تنقيب واستخراج الثروات الطبيعية واستصلاح الاراضى الزراعية وحماية البيئة وإقامة المفاعلات النووية .
يشير النص الى التحكيم يعد تجاريا اذا نشا النزاع حول علاقة قانونية ذات طابع اقتصادى،عقدية كانت او غير عقدية.
وتبين مما تقدم ان لا يشترط ان تنشا العلاقة القانونية عن عقد معين ،وانما يمكن ان يكون مصدرها عمل غير مشروع او ضالة ،وفى مثل هذه الحالات الاخيرة يتم الاتفاق على التحكيم بعد نشوء النزاع ،لانه لا يتصور ان يوجد اتفاق مسبق على التحكيم ذلك لان مصر العلاقة القانونى من المصادر غير الاتفاقية .من ذلك مثلا دعوى المنافسة غير المشروعة التى تأسس على فكرة الخطأ التقصيرى.
لذلك فان نص المادة 10 من قانون التحكيم الجديد،يعرف اتفاق التحكيم بانه اتفاق الطرفين على الالتجاء الى التحكيم لتسوية كل او بعض المنازعات التى تنشا او يمكن ان تنشا بينهما بمناسبة علاقة قانونية معينة عقدية كانت او غير عقدية ،وانه يجوز ان يكون اتفاق التحكيم سابقا على قيام النزاع او بعد قيام النزاع.
ثار الخلاف والجدل فى الفقه والقضاء حول طبيعة الاعمال التجارية الواردة فى المادة (2) من التقنين التجارى والتى تحتوى على خمس عشرة فقرة تتضمن كل فقرة اكثر من عمل تجارى ،وما اذا كان يعد واردا على سبيل المثال ،اذ لا يتصور حصر الاعمال التجارية والتى تتحدد وتتطور على مر الزمن،لذلك اثر المشرع تجاريا فى مفهومه ،ان يسبق هذا التعداد بالنص صراحة على انه يشمل على سبيل المثال …”التى ذكرت .
اذا أراد المشرع ان يؤكد التحكيم يمكن ان يعد تجاريا متى تعلق بأعمال ذات طابع اقتصادى ولو لم تكن واردة فى التعداد الذى تضمنه.
4- نلاحظ ان الأمثلة التى ذكرها النص نقلها عن الأمثلة التى أشار اليها هامش المادة 1/1 من القانون النموذجى للتحكيم التجارى الدولى الذى وضعه سنة 1985 لجنة الامم المتحدة لقانون التجارة الدولية “الانتيترال “والذى يعد اساسا لمشروع قانون التحكيم التجارى الدولى المصرى ،كما فى مقدمة هذا الحديث .
ولما كان وضع هذا التعداد هامش تشريع وطنى امر غير مألوف،فقد وضع هذا التعداد الوارد على سبيل المثال فى صلب المادة (2)من قانون التحكيم التجارى المصرى الجديد .
وواقع الامر ان التحكيم فى المنازعات الناشئة عن المعاملات ذات الطابع الاقتصادى والتى تعد تجارية بحسب المادة (2)من القانون الجديد لم يترك مجالا واسعا لتحكيم يتعلق بنزاع مدنى،بحيث يمكن القول ان القانون الجديد هو فى الواقع الامر قانون للتحكيم التجارى الذى اتبع مدلوله ليشمل كل المنازعات ذات الطابع الاقتصادى،سواء كان يصدق عليها وصف المنازعات المدنية او المنازعات التجارية ،ويشمل وفقا لصريح نص المادة (1) من القانون الجديد المنازعات التى تدخل فى دائرة العقود الادارية ما دامت تتسم بالطابع الاقتصادى.
رابعا: ما هو المقصود بمعيار الدولية فى قانون التحكيم رقم 27 لسنة 1994 .
لم يستقر فقه قانون التحكيم على تجديد معيار لدولية التحكيم او للتفرقة بين التحكيم الداخلى والتحكيم الدولى .
فذهب رأى الى الاخذ بفكرة القانون الواجب التطبيق بالنسبة لاجراءات التحكيم فالتحكيم الداخلى هو الذى اخضع فى إجراءاته للقانون الوطنى ،اما التحكيم الدولى فهو الذى تخضع إجراءاته لقانون أو لنصوص اتفاقية دولية .
وذهب رأى اخر الى ان العبرة بمكان صدور حكم التحكيم ، وهناك اراءاخرى تستند الى جنسية المحكم او جنسية الخصوم . ومنها ما يستند الى المكان الذى يوجد فيه المركز الرئيسي للمنظمة التى تتولى التحكيم او مكان المحكمة المختصة أصلا لنظر النزاع وقد انتقدت جميع هذه المعايير( *).
اما المعيار الذى اتجه اليه الفقه الحديث واخذ به القضاء الفرنسى ، فهو المعيار الذى يتعلق بنزاع من طبيعة دولية اى يتعلق بمعاملة تجارية دولية ولو كان يجرى بين شخصين يحملان الجنسية ذاتها وجرى التحكيم فى الدولة التى ينتميان الى جنسيتهما ( **).
على ان المعيار الاخير لايحل بدوره صعوبة تحديد الطبيعة الدولية للمعاملة التجارية.
وقد حدد القانون النموذجى للتحكيم التجارى الدولى اكثر من معيار لدولية التحكيم فى المادة1/3منه اذ يعتبر التحكيم دويا فى حالات ثلاث.
- اذا كان امرا عمل طرفى التحكيم وقت عقد ذلك الاتفاق واقعين فى دولتين مختلفتين (*)او
- اذا كان الاماكن التالية واقعا خارج الدولة التى يقع فيها مقر عمل الطرفين .
- مكان التحكيم اذا كان محددا فى اتفاق التحكيم او طبقا له.
(ب)اى مكان ينفذ فيه جزء هام من الالتزامات الناشئة عن العلاقة التجارية ،او المكان الذى يكون لموضوع النزاع او ثق الصلة به …او
(3)اذا اتفق الطرفان صراحة علىان موضوع اتفاق التحكيم متعلق باكثر من دولة واحدة ونلاحظ ان الحالة الاولى من الحالات التى نص عليها القانون النموذجى مستمدة من معيار دولية عقد بيع البضائع الذى أخذت به اتفاقية الامم المتحدة للبيع الدولى للبضائع لعام 1980 “اتفاقية فيينا “
وقد اخذ قانون التحكيم المصرى الجديد بالحالات التى اخذ بها القانون النموذجى ،وأضافت اليها حالة رابعة عندما نصت المادة (3)على ان :
يكون التحكيم دوليا فى حكم هذا القانون اذا كان موضوعه نزاعا يتلق بالتجارة الدولية وفى الاحوال الاتية :
نلاحظ ان هذه الفقرة قد تبنت معيار ارتباط النزاع بالتجارة الدولية الذى استقر عليه الفقه الحديث والقضاء الفرنسى .
اما الحالات التى وردت فى نص القانون المصرى فهى :
اولا: اذا كان المركز الرئيسي لأعمال كل من طرفى التحكيم يقع فى دولتين مختلفتين وقت إبرام اتفاق التحكيم ،فاذا كان لأحد الطرفين عدة مراكز للاعمال فالعبرة بالمركز الاكثر ارتباطا بموضوع اتفاق التحكيم ، واذا لم يكن لأحد طرفى التحكيم مركز إعمال فالعبرة بمحل اقامته المعتاد…
وهذه الحالة احدى حالات القانون النموذجى الواردة فى المادة 1/3 وهى الحالة الاولى مع إضافة الحكم الوارد فى الفقرة الفرعية (4)من المادة 1/3 والمشار اليها فى الهامش فى الصفحة السابقة ،وهو المعيار الذى أخذت به اتفاقية فيينا سنة 1980 للبيع الدولى للبضائع ،كما ذكرنا أنفا .
ثانيا :اذا اتفق طرفا التحكيم على اللجوء الى منظمة تحكيم دائما او مركز للتحكيم يوجد مقره داخل جمهورية مصر العربية او خارجها.
وهذه الحالة التى أضافها النص المصرى الى الحالات الثلاث فى القانون النموذجى ويهدف من ذلك الى اعتبار التحكيم دوليا باللجوء الى منظمة تحكيم دائمة مثل غرفة التجارية الدولية فى باريس او جمعية التحكيم الأمريكية او باللجوء الى مركز للتحكيم يوجد مقره داخل مصر او خارجها مثل مركز القاهرة الاقليمى للتحكيم التجارى الدولى، او مركز تسوية منازعات ICSID فى واشنطن.
ثالثا :اذا كان موضوع النزاع الذى يشمله اتفاق التحكيم يرتبط باكثر من دولة واحدة .. وهذه الحالة أخذ نص ايضا من القانون النموذجى ،ولعلها اكثر الحالات وضوحا لبيان الصفة الدولية للنزاع .
رابعا :اذا كان المركز الرئيسي لأعمال كل من طرفى التحكيم يقع فى نفس الدولة وقت أبرام اتفاق التحكيم وكان احد الاماكن التالية واقعا خارج هذه الدولة :
- مكان اجراء التحكيم كما عينه اتفاق التحكيم او أشار الى كيفية تعيينه.
- مكان تنفيذ جانب جوهرى من الالتزامات الناشئة عن العلاقة التجارية بين الطرفين .
- المكان الاكثر ارتباطا بموضوع النزاع .
وفى هذا الحالة التى تندرج ضمن الحالات الثلاث الواردة فى القانون النموذجى على ما قدمنا ولكن أفراد القانون المصرى الجديد فقرة مستقلة لحالة ما اذا كان المكان الاكثر ارتباطا بموضوع النزاع يقع خارج الدولة التى يوجد فيها المركز الرئيسي لأعمال كل من طرفى التحكيم فى وقع هذا المركز الرئيسىفىالدولة نفسها وهى الحالة التى وردت فى القانون النموذجى .ضمن حالة نص عليها فى الفقرة 2- (ب)من المادة 1/3/كما قدمنا .
ويبدو مما تقدم ان القانون المصرى الجديد للتحكيم او رد عدة معايير يكون فيها التحكيم دوليا وفقا لاحكامه ،مما يسمح باتساع نطاق مفهوم التحكيم التجارى الدولى وفقا للقانون الجديد
ويترتب على تحديد الطبيعة الدولية للتحكيم اهمية كبرى فى تحديد الاحكام التى تنطبق على التحكيم الدولى وفقا لاحكام القانون الجديد وأهمها بيان المحكمة المختصة أصلا بنظر النزاع اذا كان التحكيم داخليا ،ومحكمة استئناف القاهرة اذا كان التحكيم تجاريا دوليا مالم يتفق الطرفان على اختصاص محكمة استئناف اخرى فى مصر (المادة 9/1) كذلك ترفع دعوى بطلان حكم التحكيم الصادر فى التحكيم التجارى الدولى امام المحكمة المشار اليها فى المادة (9) محكمة استئناف القاهرة او أية محكمة استئناف اخرى فى مصر يتفق عليها طرفا فى التحكيم ” فاذا كان الحكم الصادر فى التحكيم الداخلى ،فان دعوى البطلان تكون من اختصاص محكمة الدرجة الثانية التى تتبعها المحكمة المختصة أصلا بنظر النزاع .
خامسا :ما مدى الحرية التى يهيئها القانون رقم 27لسنة 1994 لطرفى التحكيم :
بالإطلاع على احكام القانون المذكور يبين ان المشرع اتجه الى احترام ارادة طرفى التحكيم بإفساح الحرية لهما لتنظيمه بالكيفية التى تناسبهما هذه الحرية هى عماد نظام التحكيم ،اذا فقد هويته ،وكلما زاد مقدار الحرية التى يهيئها التشريع لطرفى التحكيم كلما زادت ثقتها فيه وزاد اطمئنانها الى الحكم الذى ينتهى اليه ،ويقوم المشروع على هذا المبدأ الأصولى ،اذ ترك للطرفين حرية الاتفاق على كيفية تعيين المحكمين وتسميتهم واختيار القواعد التى تسرى على الاجراءات وتلك التى تطبق على موضوع النزاع ، وتعيين مكان التحكيم واللغة التى تستعمل فيه ووضع القانون لكل هذه الحريات قواعد احتياطية لتطبق عندما يوجد اتفاق.
المستشارة / نجوى الصادق