لماذا تجب الحصانة للمحامين بقلم الاستاذ / رجائى عطية نقيب محامين مصر ورئيس اتحاد المحامين العرب
واجب ولا شك على نقابة المحامين أن ترعى تقاليد المحاماة، وأن تحث على المحافظة عليها، وأن تحاسب على الخروج عنها، لأن ذلك هو الذي يحفظ للمحاماة احترامها الواجب في عين نفسها، وفي عيون الناس والسلطات. يقابل هذا الواجب واجب على المجتمع وكافة آلياته وأجهزته وسلطاته في احترام المحاماة والمحامين الذين زادت حوادث التجاوز معهم والتعرض لهم هذه الأيام. توفير الحصانة للمحامين ليس محاباة ولا مجاملة، وإنما هو تحصين للعدالة ذاتها ولحقوق الناس التي ينهض المحامون للدفاع عنها حين تتعرض للعدوان أو الإهدار. من سنوات كتبت للأهرام عن الحصانة الواجبة للمحامي لقاء ما يتعرض له من مخاطر، وضمنته فيما بعد كتاب: « رسالة المحاماة »، أن الحقيقة قد لا تصل إلى القاضي سهلة ميسورة، بل قد لا تصل إليه على الإطلاق، وقد يقيض لها من طلاب الزيف والبهتان من يحجبونها حجبًا كثيفًا، وأن يطمسوا عليها ويطمسوا أدلتها، وقد يصطنعون أدلة كاذبة للإيحاء بغير الحقيقة، بينما القاضي على منصته العالية ـ مع تقيده بحدود الخصومة ـ غير متاح له أن يطلع على ما جرى ويجرى وراء أستار الخفاء ! حُجُب الخفاء لطمس الحقيقة وإدخال الزيف عليها ـ تصاحب الخصومة ربما من منبتها ـ فيحتال رجل الضبط لإهدار الشرعية الإجرائية، والافتئات بغير سند مشروع على حريات ومستودعات أسرار الناس، وكثيرا ما يلازم ذلك قبض وتفتيش باطلان، أو انتزاع اعتراف بالقسر والضغط والتعذيب والإرغام، وهى وسائل من المحال معها أن تطمئن عدالة عادل إلى صدق الاعتراف ومطابقته للواقع، سيما وهو كريه إلى النفس، لا تقبل عليه ـ إن أقبلت !ـ إلاّ مضطرة، وتغدو صعوبة إثبات الإكراه للحمل على الاعتراف، في أنه قد يقف عند حد الإكراه المعنوي ولا يتعداه إلى إكراه مادى يمكن أن يترك علامات، وقد تعددت فنون الإكـراه المادي وابتدعت فيه أساليب شيطانية لا تترك أثرًا يدل عليهـا، فتغدو مهمة القاضي في جميع هـذه الأحوال مهمة بالغة العسر بـل والاستحالة، لأن التعذيب فضلاً عـن فنونه المستحدثة ـ يجرى على « أرض » أو « ملعب » فاعليه، محدود بحدود يتحكمون فيها مكانًا وزمانًا وشهودًا، حتى ليكاد القاضي يحسه ويلمسـه ولكـنه لا يمسك دليـلاً عليه !!.. هنالك تبدو وتتجلى إبداعات المحاماة التي تستطيع أن تهدى إلى الحقيقة بجمع الأدلة من مظانها، واستخراج الدلالات والقرائن، واستنباط المجهول من واقع معلوم يدل عليه.. على أن هـذه المهمة التي يجاهـد المحامي مجاهدة صعبة فيهـا، محفوفة بأخطار الوقوع فيما قد يمسكه عليه رجل الضبط الذي من مصلحته أن يتصيد زلة لسان أو جمـوح عبارة أو سخونـة وصف ـ ليدمغه بالسب والقذف أو البلاغ الكاذب !! ومن ثمّ يعرض المحامي الباذل في إخلاص لمغبة المساءلـة الجنائية عما عساه يمسكه عليه في سعيه الدءوب لكشـف الحقيقة للقاضي!! وليس حال شهود الدعوى بأيسر أو أهون مكابدة في المعالجة من إجراءات الضبط، فليس كل الشهـود على شاكلة واحدة، أو من معدن واحـد.. منهـم الصادق والكاذب، ومنهم المستقيم والملتوي، ومنهم المتجرد والمغرض، ومنهم المحايد والمنحاز، ومنهم الأمين والخائن، ومنهم البرىء والخبيث، وهم على أشكال شتى، وأغراض شتى، ومعادن شتى.. بل إن أكثر الناس للحق والإنصاف كارهون، وبذلك وصفهم القرآن المجيد فقال: « وأكثرهـم للحق كارهـون ».. « ولكن أكثرهم للحق كارهون ».. ومنهم كثمود مـن يستحبون العمى على الهـدى، ومنهـم مـن يجادل في الباطل ولا يستحى من الحـق كالذين وصفهم القرآن الحكيم فقال: « يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ».. ومنهـم مـن لا يريد إلاّ خداعـا.. « ومنهم من يجترئون على الكذب والزور، ولا يقولون إلاّ منكرا من القول وزورًا ».. فماذا يفعل القاضي إزاء هذه النوعيات بينما أوصاه القرآن ألاّ يقبل إلاّ شهادة ذوى العدل والصدق والاستقامة والأمانة، فقـال عـز مـن قائل: « وأشهدوا ذوى عدل منكم ».. على أن حرص القاضي على الاستشهاد بذوي العدل تقابله ظلال كثيفة على المحامي أن يجليهـا، وجلاؤها يمض ويوجع من يكشف الدفاع ستر كذبه أو خداعـه أو ميله أو هـواه أو بهتانـه أو تزييفه أو تزويره أو انحيازه أو حنثه بيمينه، وإزاحة الستار عن هذا وذاك محفوفة هي الأخرى بالمخاطر، يغدو أمامها المحامي كالقافز فوق الأشواك، سواء فيما يجب أن يستقصيه ويحصله ويفسره ويكيفه، أم فيما يلقيه أمام النيابة أو القضاء من قول وحجة وبرهان لإثبات ما يمسكه على رجل الضبط أو الشاهد ويعريه به.. وهذا بدوره باب ملىء بالمخاطر والألغام، فلن يرضى الشاهد أن ينعته المحامي بما كشفه من ستره، ويفضح أمره ويعرى كذبه وزوره والتواءه، وما أيسر أن ينازل المحامي ـ بأنه وقع في وهدة السب أو القذف أو البلاغ الكاذب، فيغدو سيف الخطر مشهراً عليه في جميع أحواله ! بل إن خطاب المحامي للنيابة أو للمحكمة، لا يخلو من مخاطر زلل اللفظ أو تجاوز العبارة التي ربما عرضته للمسئولية ـ لأنه وهو يسعى للإقناع بما اقتنع به ووقر في خلده، لا يتحدث حديث المحاضر الهادئ، وإنما يتكلم بحماس وتأثر وانفعال المدافع المندمج في قضيته المتفاعل معهـا الشاعر بأوجاع موكله وبالمخاطر التي يمكن أن تحدق به، والحانق أيضاً على تراكمات الزيف والزور والحجب والطمس والالتواء التي يسلكها أعداء الحـق الرامون لتزييف الحقيقة والافتئات على الأبرياء ــ هذه المهمة الدقيقـة لا يؤديها المحامي ساكن النفس هادئ الخاطر، وإنما هى شحنة من المشاعر تموج في صفحة وجدانه وتصاحبه فيما يقول ويومئ.. وليس يدرك هـذه المكابـدة إلاّ من يعانيهـا، وهـى مكابدة تفتح على المحامي أبوابًا من المحاذير والأخطار، كم أوذى بها ومنها محامون، وكم انتهت الحيوات المهنية لمحامين، وكم دخل بسببها محامون في أقضيات انتقلوا فيها من موقع المحاماة إلى موقف الاتهام، فبذلوا من مصالحهم ومهنتهم وحاضرهم ومستقبلهم ما ترويه مجلدات حكت سير المحامين العظام ـ لعل من أكثرها دلالة سيرة المحامي الفذ مارشال هول، وأسلاف عظام تحمل سيرهم مدونات سير المحامين المصريين. خاض الأسلاف العظام معارك ضارية استرخصوا فيها مصالحهم وحرياتهم وحيواتهم قبل أن تلتفت المدونات التشريعية لإقامة سياج من الضمانات لحماية المحامي وحق الدفاع ـ هذا السياج هو في حقيقته حماية للعدالة قبل أن يكون حماية لشخص المحامي، لأن المحامي المرتجف لن يقدر على حمل هموم البشر ناهيك بالمناضلة الصادقة من أجلها ـ وهذه هي رسالة المحاماة ! ظني أن هذا الملف يجب أن يفتح، حالة كون النص الحديث المقرر لها، قد اشترط لإعماله ألاَّ تكون « الواقعة » في حالة تلبس، وهو شرط يأخذ باليسار ما يعطيه باليمين، حالة كون كل ما قد يُنْسب للمحامي ــ صدقًا أو ادعاءًا ــ إنما يقع إما في مرافعة أو حضور بمحكمة، أو أمام سلطات التحقيق وسلطات الاستدلال، والسلطات الإدارية في السجون وغيرها، وسهل على من يريد النكاية بمحام أن يدعى عليه ما يشاء بقالة إنه حدث في حالة تلبس، فتهدر كل الضمانات التي قررها ذات النص للمحامي. ليس في صالح العدالة ذاتها، ولا في صالح أحد، وبداهة ليس في صالح المحاماة كرسالة، أن يكون المحامي « أعزل » لا حماية ولا حصانة ولا ضمانة له.