التحكيم فى منازعات
عقود نقل التكنولوجيا
أ.د/ سميحة القليوبى
أستاذ القانون التجارى والبحرى
بكلية الحقوق جامعة القاهرة
مقدمة : يعد التحكيم أقدم وسيلة لجأ اليها الإنسان لفض ما ينشأ بينه وبين أقرانه من نزاعات ، وقد أشارت الى ذلك الكتب المقدسة بقصة احتكام قابيل وهابيل الى السماء فقدم كل منهما قربانا تاركا لها ان تختار صاحب الحق منهما ، وجعلوا علامة ذلك الاختيار هو تقبل القربان .
ولم يستمر نجم التحكيم ساطعا فى فض جميع المنازعات ، بل سرعان ما أفل نجمه بمولد الدولة بمفهومها الحديث وظهور السلطة القضائية التى أصبح لها وحدها الولاية فى نظر المنازعات والفصل فيها .
ومع ذلك فقد سجل العصر الحديث عودة لنظام التحكيم بصفة عامة لا سيما لحكم معظم المنازعات بصفة عامة والمنازعات التجارية بكافة صورها بصفة خاصة وطنية كانت ام دولية وذلك لأسباب نعلمها جميعا ليس المجال هنا لشرحها .
التحكيم وعقود نقل التكنولوجيا :
ان موضوع التكنولوجيا بصفة عامة هو موضوع الساعة دون جدال ، فهو موضوع يهم جميع دول العالم بصفة عامة والدول التى فى طريقها الى النمو بصفة خاصة .
ولعل أهم الأسباب التى فرضت أهمية موضوع التكنولوجيا – خاصة نقلها من الدول المتقدمة الى الدول التى فى طريقها الى النمو – الفجوة العميقة الحالية فى التقدم الاقتصادى والصناعى والفنى بين الدول المتقدمة من جانب والدول التى فى طريقها الى النمو من جانب أخر ولا شك ان الرغبة فى تحقيق نظام اقتصادى عالمى جديد يعتمد بصفة أساسية على التعاون بوسائل المساعدات الفنية التى تملكها الدول المتقدمة والتى تسيطر على تصديرها بواسطة شركاتها العملاقة ذات الجنسيات المتعددة أمل تسعى اليه الدول النامية خاصة فى ظل اتفاقية منظمة التجارة العالمية التى أصبحت سارية واجبة النفاذ منذ اول يناير 1996 .
ويعتبر أهم ما يتعلق بالتكنولوجيا من وجهة نظر رجل القانون ، التنظيم القانونى لنقلها ، وهذا التنظيم قد يتعلق بالتشريعات والنصوص القانونية التى يسعى المشرع الى فرضها فى هذا المجال وتلزم الاطراف بإتباعها حماية للصالح العام واقتصاد البلاد . كما قد يتعلق بتنظيم العقود ذاتها التى يبرمها الاطراف فى خصوص نقل التكنولوجيا وكذلك تنفيذها .
ومن ناحية التنظيم التشريعى لنقل التكنولوجيا ، فقد استجاب أيضا المشرع المصرى وأصدر مؤخرا تنظيما قانونيا لعقد نقل التكنولوجيا ضمن أحكام قانون التجارة رقم 17/1999 وذلك بالمواد من 72 الى 87 بالفصل الاول من الباب الثانى . كما عالج المشرع فى تلك المواد بعض الاحكام الهامة لعقود نقل التكنولوجيا .
ومن المسائل الجوهرية أيضا لرجل القانون فى هذا المجال الطرق الودية التى يفضل الالتجاء اليها لفض المنازعات وتسويتها والعمل على تفادى مساوئ الالتجاء الى القضاء فى حالة نشوب الخلافات بمناسبة تنفيذ عقود التكنولوجيا . ومن المسلم به ان التجاء الى طريق التحكيم فى مثل هذه المنازعات هو من الوسائل الأولية التى يفكر فيها ويقبلها رجل القانون .
وكانت الدول المتقدمة – ناقلة التكنولوجيا – تفرض وتتطلب وسيلة التحكيم للفصل فى المنازعات بزعم خشية الوقوف امام الهيئات الوطنية لشكها فى نزاهتها وحيدتها من جانب ، وبزعم الطبيعة المتميزة لعقود نقل التكنولوجيا واعتمادها على خبرات عالمية متخصصة فى مجالات صناعية عالية المستوى تفتقدها الدول المتلقية للتكنولوجيا من جانب آخر . ورغم عدم صحة اى من هذه المزاعم الا ان الدول المتقدمة ناقلة التكنولوجيا كانت ترددها فى المحافل الدولية .
وفعلا نجد معظم عقود نقل التكنولوجيا – شأنها شأن باقى العقود الدولية فى مجالات التجارة الدولية – تتضمن التحكيم كوسيلة لفض النزاع ، ويضمن الاطراف فى هذه الحالة عقودهم شروط التحكيم من حيث القانون الواجب التطبيق سواء ذلك الذى يحكم الاجراءات او الموضوع .
وتعمل الدول المتقدمة – وهى الطرف القوى دائما فى مثل هذه العقود – على فرض شروطها وقوانينها وأقاليمها وعواصمها لتكون هى الواجبة الإتباع والانتقال اليها وذلك تمشيا مع وجهة نظرها بعدم الارتياح لقوانين الدول المتخلفة متلقية التكنولوجيا .
لذا فقد كان قبول مبدأ اللجوء الى التحكيم وتطبيق المحكمين لقوانين وأعراف أجنبية التى تمثل فى نظر وأوساط الدول المتقدمة الحماية الفعالة لمصالح التجار ، هو الثمن الذى دفعته البلاد التى تفتقر الى التكنولوجيا المتقدمة لابرام عقود نقل التكنولوجيا والاستفادة منها .
والنتائج المنطقية لذلك تضحية الدول الملقية للتكنولوجيا بأهم مظاهر سيادتها وهى الخضوع للسلطة القضائية الوطنية والسيادة التشريعية الداخلية فى سيبل ان توفر لرعاياها فى مجال التجارة الدولية ، الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة لتواكب التقدم والتطور المستمر .
وبعبارة أخرى ، فان نقل التكنولوجيا أصبحت فى حقيقتها ، نتيجة سيطرة الطرف القوى مورد التكنولوجيا ، ضربا من ضروب الإذعان التى لا تملك دول النامية فبلها الا الخضوع والموافقة .
على انه ليس معنى ما تقدم ان التحكيم كنظام لفض المنازعات تحيط به الشبهات من حيث المبدأ ، فهذا الامر لا نقصده بل ان ما نريد الاعتراف به ان التحكيم أصبح ضرورة لا تقبل عنه الدول المتقدمة بديلا فى عقود نقل التكنولوجيا الى الدول التى فى طريقها الى النمو وتفرض من خلاله ما تراه مناسبا لها من قوانين واجبة التطبيق . وبإيجاز أصبح التحكيم جزاءا لا يتجزأ من العقود السائدة فى السوق العالمية الحديثة بصفة عامة وعقود نقل التكنولوجيا بصفة خاصة.
وإزاء الحقائق المسلم بها ، فإننا سنحاول بحث مدى ملائمة كل من القوانين الأجنبية التى كانت تفرضها الدول المتقدمة والتى كان يلجأ اليها المحكمون ، فى فض المنازعات الناشئة عن تنفيذ عقود التكنولوجيا ، كما سنحاول إيضاح مدى فائدة تمسك الدول التى فى طريقها الى النمو ، مستقبلة التكنولوجيا بتطبيق قوانينها الوطنية كمظهر من مظاهر السيادة واستقلال فى مجال عقود نقل التكنولوجيا وذلك سواء قبل وضع التنظيم القانونى لنقل التكنولوجيا بالقانون رقم 17/1999 او بعده .
ونود قبل ان نتناول هذا الموضوع الرئيسى الاشارة بإيجاز الى تعريف التكنولوجيا ثم المقصود بعقد نقل التكنولوجيا وبعض صور لهذه العقود .
الموضوع الاول : المقصود بالتكنولوجيا وبعض صور نقلها :
اولا تعريف التكنولوجيا :
يقصد بالتكنولوجيا ، التطبيق العملى للأبحاث والنظريات العلمية ، فهى وسيلة للوصول الى أضل التطبيقات لهذه الابحاث العلمية حيث يوجد البحث العلمى النظرى فى جانب والتطبيق العملى فى جانب آخر . فاذا كان العلم وكذلك البحث العلمى يمنحنا القدرة على معرفة السمات والصفات المميزة للأشياء ومكوناتها فقط ، فمن المعلوم ان التكنولوجيا تتخطى ذلك الجانب النظرى وتمكننا من الوصول الى هذه الابحاث العلمية الى أفضل تطبيق لها . وفى ضوء ذلك يمكننا القول ان التكنولوجيا فى أبسط صورها فى أبسط صورها هى المعرفة الفنية Know-how .
ثانيا : تعريف عقد التكنولوجيا :
عرفت المادة (73) تجارى عقد نقل التكنولوجيا بأنه اتفاق يتعهد بمقتضاه (مورد التكنولوجيا) بان ينقل بمقابل معلومات فنية الى – مستورد التكنولوجيا) لاستخدامها فى طريقة فنية خاصة لإنتاج سلعة معينة او تطويرها او لتركيب او تشغيل آلات او أجهزة او تقديم خدمات ، ولا يعتبر نقلا للتكنولوجيا مجرد بيع او شراء او تأجير او استئجار السلع ولا بيع العلامات التجارية او الأسماء التجارية او الترخيص باستعمالها الا اذا ورد ذلك كجزء من عقد نقل التكنولوجيا ، او كان مرتبطا به .
ويتضح من هذا التعريف ان محل عقد نقل التكنولوجيا يجب ان يكون نقلا لمعلومات فنية لإنتاج سلعة معينة او لتطويرها ، او لتقديم خدمات فنية . ويترتب على ذلك ان قصر العقد على بيع شراء معدات او قطع غيار او شراء علامة تجارية او اسم تجارى او الحصول على ترخيص باستعمالها لا يعد نقلا لتكنولوجيا ، ولكن يمكن ان يعد كذلك اذا كان هذا الشراء او الترخيص الاستعمال تابعا لعقد نقل معرفة فنية او جزء من هذا العقد او مرتبطا به .
ثالثا : بعض صور عقود نقل التكنولوجيا :
- ان محل عقد نقل التكنولوجيا هو كما سبق القول ” المعرفة الفنية ” وهو ما يطلق عليها Savoire Faire – Know how .
واذا اقتصر العقد على ان يكون محله مجرد نقل هذه المعرفة الفنية ، فان العلاقات القانونية تنحصر فى مجرد تنفيذ كل من الطرفين للالتزام عند التعاقد دون المراحل التالية التى تستخدم فيها المعرفة الفنية محل العقد .
وهذه الصور البسيطة من صور عقود نقل التكنولوجيا هى المنتشرة بين الدول المتقدمة بعضها البعض حيث يتمتع كل من طرفى العقد بدراية فنية وكفاية تطبيقية متقاربة ان لم تكن متعادلة .
على انه فى معظم العقود التى تنتشر حاليا بين الدول المتقدمة والدول التى فى طريقها الى النمو لا تقتصر عقود التكنولوجيا على مجرد نقل المعرفة بل تتخذ صورا أكثر تعقيدا وتشعبا .
لذلك يطلب دائما الطرف المتلقى للتكنولوجيا ، بالإضافة الى المعرفة الفنية ، المساعدة فنيا وتطبيقها من الطرف المورد . ويقصد بذلك انه بالإضافة الى التزام المورد بنقل المعرفة الفنية فهو ملزم بتقديم المساعدة الايجابية وتقديم الخدمات اللازمة والضرورية للأخذ بيد المتلقى لها حتى يبدأ السير فى الطريق السليم المرجو من عقد نقل التكنولوجيا.
وفى هذه الحالة نصبح امام عقد مركب لانه يتعين ليس فقط نقل المعرفة الفنية ولكن أيضا نقل الخدمات والمساعدة الفنية . هذا العقد المركب قد يتمثل فى :
- أ- الالتزام بتوفير العمالة الفنية والخبراء ، او الالتزام بتدريب العمالة المحلية او تركيب الآلات ويطلق عليه عقد المساعدة الفنية : Teechmcal Assistance Agreement والأمثلة على هذا النوع من العقود كثيرة منها اتفاقيات براءات الاختراع Patents Agreement . والخدمات الهندسية Engineering Services Agreement ومنها الخدمات الهندسية الأساسية والتفصيلية وعقود الترخيص الصناعى License agreements الى غير ذلك من الصور.
- ب- كما قد يتمثل عقد التكنولوجيا فى بيع مجموعة صناعى متكامل يطلق عليه ” عقد تسليم المفتاح Tourn Key- Contrat Cle En Main .
وهذا العقد يتمثل فى تسليم مصنع متكامل من عدد وآلات وبراءة وعلامة تجارية او صناعية بالإضافة الى الدراسات والطرق المعدة مسبقا . وهذا العقد يطلق عليه عقد تسليم المفتاح البسيط او الجزئى Cle En Main – Leger Ou Parpiel .
وهذا النموذج كان منتشرا بين الدول الاشتراكية وبين الدول المتقدمة بعضها البعض كذلك بين الدول التى تنقصها التكنولوجيا ولكن تتمتع بوفرة فى العمالة الفنية القادرة على الاستيعاب . اما الصورة الاخرى لعقد تسليم المفتاح فهى يطلق عقد تسليم المفتاح الثقيل Cle En Main Lourd او تسليم المفتاح الشامل ، ويلزم بمقتضاه المورد ليس فقط بتسليم المصنع مع المساعدة الفنية بل أيضا تدريب العمالة المحلية فنيا وتقديم المساعدة بتشغيل المصنع وهذا النموذج ينتشر بين الدول المتقدمة والدول التى فى طريقها الى النمو .
- ج- ومن عقود نقل التكنولوجيا المركبة عقد تسليم الإنتاج Produit En Main حيث يلتزم المورد بتشغيل المصنع وقيادته فنيا وصناعيا خلال مدة متفق عليها بشرط ان تصبح العمالة المحلية على درجة من الدراية الفنية تمكنها من استيعاب وتشغيل التكنولوجيا المركبة واستخدامها حتى الإنتاج النهائى المرجو من هذه التكنولوجيا .
ومن الممكن ان يعتمد التزام المورد ببيع الإنتاج بواسطة التكنولوجيا المنقولة ويطلق عيه عقد تسويق الإنتاج Marche En Main .
والسبب فى انتشار مثل هذه الصورة من عقود نقل التكنولوجيا فى الدول النامية هو ان هذه الدول تريد قدر الاستطاعة تعويض حالة التأخير والتردى الانتاجى والصناعى الذى هى عليه الآن نتيجة الاستعمار بكل أشكاله وصوره والذى كان يوجه نشاط المواطنين فى الدول المستعمرة الى المجالات الإدارية اللازمة لتحقيق مصالحه فقط والتى ليس من بينها مطلقا مجالات الإنتاج والتصنيع او التدريب لتحقيق التمكن التكنولوجى .
الموضوع الثانى : القانون الواجب التطبيق على عقود نقل التكنولوجيا :
اولا : القانون الذى يحكم إجراءات التحكيم :
يقصد بإجراءات التحكيم مجموعة القواعد الاجرائية التى يتبعها المحكمون منذ تشكيل هيئتهم حتى اصدار حكمهم بشأن النزاع ، او بعبارة أخرى هى القواعد الاجرائية التى تحكم سير الخصومة امام المحكمين .
يتفق أطراف العقد عادة على الأسس الاجرائية العامة ” التى تحكم نظام التحكيم من حيث تعيين المحكمين والأغلبية اللازمة ” لإصدار الحكم وعبء النفقات مع ترك باقى المسائل الاجرائية لاختيار هيئة التحكيم او لقانون معين يختارونه.
وعادة يترك الاطراف تنظيم ذلك الى قواعد هيئة او محكمة تحكيم معينة بالذات كاختيار قواعد غرفة التجارة الدولية بباريس او محكمة لندن للتحكيم الدولى او نظام مركز القاهرة الاقليمى والذى يطبق قواعد اليونسترال .
ويفسر عدم وجود اتفاق لتحديد هذه الاجراءات على انه اختيار ضمنى من أطراف النزاع لجعل الاختصاص بها لقانون مكان التحكيم . وقد تضمن قانون التحكيم المصرى رقم 27/1994 حكما فى هذا الشأن حيث تنص المادة (25) منه على انه :
لطرفى التحكيم الاتفاق على الاجراءات التى تتبعها هيئة التحكيم بما فى ذلك حقهما فى إخضاع هذه الاجراءات للقواعد النافذة فى اى منظمة او مركز تحكيم فى ج.م.ع او خارجها فاذا لم يوجد مثل هذا الاتفاق كان لهيئة التحكيم ، مع مراعاة إحكام هذا القانون ان تختار إجراءات التحكيم التى تراها مناسبة .
ثانيا : القانون الذى يحكم الموضوع :
من القواعد المسلم بها فى هذا المجال هو حرية أطراف العقد فى اختيار القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع وذلك تطبيقا لقاعدة العقد شريعة المتعاقدين ولا يرد على حرية الاطراف فى اختيار قانون معين سوى عدم مخالفة هذا الاختيار للقواعد القانونية الآمرة او اختيار قانون معين بقصد إدخال غش لأبعاد القانون الذى كان يجب او من المفروض ان يختص بحكم موضوع النزاع . وقد أشارت الى حرية الاطراف فى اختيار القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع المادة (39) من قانون التحكيم رقم 27/1994 حيث تنص على انه :
أ- تطبق هيئة التحكيم على موضوع النزاع القواعد التى يتفق عليها الطرفان . واذا اتفقا على تطيق قانون دولة معينة اتبعت القواعد الموضوعية فيه دون القواعد الخاصة بتنازع القوانين ما لم يتفق على غير ذلك .
- ب- واذا لم يتفق الطرفان على القواعد القانونية واجبة التطبيق على موضوع النزاع طبقت هيئة التحكيم القواعد الموضوعية فى القانون الذى ترى انه الأكثر اتصالا بالنزاع .
- ج- ويجب ان تراعى هيئة التحكيم عند الفصل فى موضوع النزاع شروط العقد محل النزاع والأعراف الجارية فى نوع المعاملة .
على ان المشرع خرج على هذا الحكم فى مجال عقود نقل التكنولوجيا واشترط تطبيق حكم القانون المصرى على ما ينشأ من منازعات بمناسبة تفسير او تنفيذ عقود نقل التكنولوجيا .
وذلك سواء كان النزاع امام المحاكم الوطنية او هيئات التحكيم حيث تنص المادة (87/2) تجارى على انه :
- تختص المحاكم المصرية بالفصل فى المنازعات التى تنشأ عن عقد نقل التكنولوجيا المشار اليه فى المادة (72) من القانون . ويجوز الاتفاق على تسوية النزاع وديا او بطريق تحكيم يجرى فى مصر وفقا لأحكام القانون المصرى .
- وفى جميع الاحوال يكون الفصل فى موضوع النزاع بموجب أحكام القانون المصرى وكل اتفاق على خلاف ذلك يقع باطلا .
وبذلك وضع قانون التجارة الجديد حكما خاصا فى شأن مكان وقانون التحكيم فى منازعات عقود نقل التكنولوجيا ، هو ضرورة نظر التحكيم بمصر وتطبيق أحكام القانون المصرى على موضوع النزاع . وهذا الحكم يلغى قاعدة حرية الاطراف فى الاختيار مكان او قانون موضوع التحكيم والمنصوص عليها بالمادة 39 من قانون التحكيم سالفة الذكر ، حيث يلغى القانون اللاحق حكم القانون السابق طالما كان كل منهما قانونا خاصا .
ولا شك ان هدف المشرع من هذه القاعدة والتى تتعلق بالنظام العام هو حماية المتلقى فى عقود نقل التكنولوجيا والذى يكون غالبا فى مركز تفاوضى اقل من مركز المورد لحاجة الاول الملحة للتكنولوجيا محل العقد ، كما افترض المشرع عدم دراية المتلقى بالأحكام الدقيقة لمثل هذه العقود .
والذى يعنينا فى هذا المجال هو موضوع تحديد القانون الأصلح للدول النامية والذى يحكم موضوع النزاع فى عقود نقل التكنولوجيا وما اذا كان هو دائما القانون الوطنى كما أخذ بذلك التشريع المصرى ام غيره .
ونشير فى هذا الخصوص بادئ ذى بدء الى ان الكثير من الدول التى فى طريقها الى النمو ومنها مصر تتحمس غالبا ولا تزال لتطبيق قانونها الوطنى على العقود التى تبرمها مع الدول المتقدمة اعتقادا منها إنها بذلك تحفظ سيادتها وتصون كرامتها واستقلالها كما تعتقد هذه الدول ان فى استبعاد القانون الاجنبى لتحكيم النزاع برهان على تمتعها بكامل السيادة والاستقلال .
والحق ان أساس تمسك هذه الدول بتطبيق قانونها الوطنى واشتراط إجراء التحكيم داخل إقليمها لم يأتى من فراغ ، حيث ذاقت هذه الدول ولا تزال منذ زمن بعيد الأمرين فى إنفاق المبالغ الطائلة للسفر والانتقال الى بلاد تجهل فقهها وقوانينها وتضطر الى الاستعانة بالمحاميين الأجانب ومساعديهم فى هذه المجال الامر الذى يضع دائما حجابا على تفهم واستيعاب خطوات الدفاع وتقدير فائدتها ، ولم تكن الدول المتقدمة تقبل هذه المطالب من الدول التى فى طريقها الى النمو كما سبق القول .
والواقع انه اذا كان تمسك الدول التى فى طريقها الى النمو فى مجال عقود التجارة الدولية بتطبيق قوانينها إنما يمثل بلا شك سيطرة الدول الأخيرة على مضمون حكم القانون وسهولة اتخاذ وسائل الدفاع وتقديم الأدلة والوثائق بصفة عامة ، الا إننا نعتقد انه لا يجب الأخذ او النظر الى هذه المشكلة من هذه الزاوية ، بل يجب الى الحكم على هذا المسلك متجردين من الحجج العاطفية التى تجد مبررها فى شعور راسخ بالانتماء ورغبة صادقة فى التخلص من المستعمر بكل صوره وأبعاده .
فالخبرة العلمية وما يحدث على مسرح الحياة الدولية والتجارب المؤثرة التى مرت بها الدول النامية فى مجال عقود نقل التكنولوجيا على وجه الخصوص ، جعلتنا نفكر مليا فى مدى فائدة التشدد فى تطبيق القوانين الوطنية والتى لا تزال معظمها على مفاهيمها وأحكام التقليدية دون تعديل او تطوير لتساير التطورات الهائلة فى مجالات التكنولوجيا والبيئة ومكافحة مخاطرها ذات الطبيعة الخاصة ، على خلاف قوانين الدول المتقدمة والتى أصبحت بعد تعديلها وتطويرها تعالج كل أوجه مشاكل التكنولوجيا الحديثة من حيث مخاطرها او إرغام المورد الذى يمكن التزامه بالضمان بالدرجة الاولى والتعويض الشامل عن أضرار نقل التكنولوجيا .
وحتى لا يأخذ علينا التعميم دون طرح المشكلات والمبررات العملية الحقيقة لما ننادى به فإننا سوف نعرض لبعض أمثلة التشريع المصرى الحالى باعتباره نموذجا من نماذج تشريعات الدول التى فى طريقها الى النمو ويتمتع بسمعة رفيعة فى مجال التفسير الفقهى والتطبيق القضائى ، كما انه فى ذات الوقت من التشريعات وان تناولها المشرع حديثا بوضع تنظيم تشريعى لعقد نقل التكنولوجيا الا انه لم يتناول أحكام المسئولية التقليدية بالتعديل المتتابع لمسايرة الطفرات الهائلة فى مجالات نقل التكنولوجيا وما يترتب عليها من مشاكل عملية تطبيقية .
كذلك سوف نذكر بعض نماذج من الشروط التى يضمنها الاطراف فى عقود نقل التكنولوجيا والتى قد يترتب عليها ضياع حقوق كاملة للطرف المتلقى للتكنولوجيا ، ومدى صحتها وفقا للتشريع المصرى فى ظل أحكام قانون التجارة الجديد رغم لك ، وموقف تشريعات الدول المتقدمة من هذه الشروط .
التطبيقات العملية :
1- من حيث مفهوم القوة القاهرة فى عقود نقل التكنولوجيا :
تنص المادة (165) من المجموعة المدنية المصرية على انه :
اذا أثبت الشخص ان الضرر قد نشأ عن سبب أجنبى لا يد له فيه ، كحادث مفاجئ او قوة قاهرة او خطأ من المضرور او خطأ من الغير ، كان غير ملزم بتعويض هذا الضرر ما لم يوجد اتفاق على غير ذلك .
ولا شك ان هذه الصياغة تثير بعض التساؤلات فى مجال تحديد مفهوم السبب الاجنبى الذى يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا فى مجال نقل التكنولوجيا نظرا لاختلاف معيار تحديده ، وفقا لتعدد صور هذه العقود . وهناك من يرى ان نظرية القوة القاهرة كما استقرت فى الفقه والقضاء ومعظم التشريعات المقارنة لا تستوعب الحالات ذات الطابع الاقتصادى والتكنولوجى بمستجداتها مما يجعل أمر تطبيقها على العقد الدولى لنقل التكنولوجيا عسيرا .
وتضمن قانون التجارة رقم 17/1999 أحكام مسئولية مورد التكنولوجيا بالمادة (85/2) والتى تقضى بمسئولية المورد والمستورد بغير تضامن بينهما بما يلحق الأشخاص والأموال من ضرر ناشئ عن استخدام التكنولوجيا او عن السلع الناتجة من تطبيقها .
ونتساءل فى هذا المجال عما اذا كان ظهور منتج جديد أكثر جودة وأقل سعرا من المنتج المتعاقد على تصنيعه فى عقد نقل التكنولوجيا يعد سببا أجنبيا يحل الطرف المورد من التعويض ام لا يعد كذلك ؟
اذا كانت إجابة بالإيجاب ، يثور التساؤل حول مركز البلد المتلقى للتكنولوجيا لتصنيع المنتج ومدى تحقيق العدالة اذا حرم من التعويض رغم فداحة الضرر الذى لحقه ، كما نتساءل أليس أقرب الى تحقيق العدالة الأخذ بما يقضى به التشريع الايطالى فى هذا الخصوص والذى ينص على طرح شروط التعاقد مرة أخرى على مائدة المفاوضات حتى يتوصل الاطراف اما الى استبدال المنتج الجديد بالمنتج القديم او فسخ العقد بمرمته ؟؟ .
ولا يشفع فى هذا الخصوص الاحتجاج بأن نص المادة (165) مدنى من التشريع المصرى والسابق ذكر نصها تجيز للأطراف الاتفاق على مخالفة حكمها . ذلك ان حرية الطرف المتلقى للتكنولوجيا ، وهو الدولة التى فى طريقها الى النمو والتى تعد دائما الطرف الضعيف فى مثل هذه العقود فى مناقشة شروط التعاقد وفرض إرادتها ، أمر بعيد المنال كما سنرى بعد قليل .
وبذلك يتأكد ان حكم التشريع الايطالى والذى يجيز إعادة طرح شروط التعاقد للتفاوض مرة أخرى حتى يتم التوصل اما الى استبدال المنتج الجديد بالمنتج القديم او فسخ العقد ، فى مثل هذه الظروف التى تضيع فيها آمال الطرف المتلقى باللحاق بالتكنولوجيا المتقدمة ، هو الأكثر فائدة لهذا الطرف وليس فى الاستطاعة الاحتكام الى مثل هذه الاحكام اذا كان التشريع المصرى الوطنى هو الذى يحكم المسألة عند إصرار الطرف المتلقى على اختيار قوانين دولته الوطنية .
وقد حاول المشرع التجارى المصرى تنبيه ملتقى التكنولوجيا لمدة العقد ، مراعاة للظروف الاقتصادية المتغيرة واحتمالات ظهور تكنولوجيا أخرى متطورة .
فنص فى المادة (86) منه على انه :
” يجوز لكل من طرفى عقد نقل التكنولوجيا بعد انقضاء خمس سنوات من تاريخ العقد ان يطلب إنهاءه او اعادة النظر فى شروطه بتعديلها بما يلائم الظروف الاقتصادية العامة القائمة ويجوز تكرار تقديم هذا الطلب كلما انقضت خمس سنوات مالم يتفق على مدة أخرى ” .
ومفهوم النص المشار اليه ان حق اى من طرفى العقد فى اعادة النظر فى شروط التعاقد او طلب إنهاء العقد ، لا يتعلق بالنظام العام ، ولا يضع جزاء على رفض اى طرف النظر فى اعادة شروط التعاقد او إنهاء هذا العقد . بمعنى انه نص لا يمثل أية قوة الزامية تحقق مصالح متلقى التكنولوجيا ، وانما مجرد تنبيه له ليراعى عند التعاقد مدة العقد واحتمالات اعادة النظر فى شروط التعاقد او إلغائه كلية عند ظهور تكنولوجيا جديدة لها اثر فعال يقضى على فائدة التكنولوجيا محل التعاقد .
2- من حيث طبيعة التزام مورد التكنولوجيا :
لعل من أهم المسائل القانونية التى تثير نقاشا كبيرا ، فى تكييف الطبيعة القانونية لالتزام مورد التكنولوجيا بضمان ان يكون المنتج يتفق تماما مع المواصفات المنصوص عليها بالعقد بواسطة التكنولوجيا محل هذا العقد ، وان استخدام المنتج يتفق مع الاستخدامات الموضحة بالعقد . كذلك التزام المورد فى عقود تسليم المفتاح وعقود تسليم الإنتاج بصفة خاصة بضمان المعرفة الفنية الكاملة للعمالة المحلية وأن هذه العمالة استوعبت التكنولوجيا المنقولة حتى تقوم بالاستخدام الصحيح لها فنيا وصناعيا ، كما يضمن المورد تسليم المجموع الصناعى محل العقد وهو فى حالة تشغيل حقيقى ومستمر .
على انه باستقراء بعض العقود فى هذه المجال فإننا نجد الطرف المورد يشترط الا تزيد فتة بقاء المورد بموقع التشغيل لإجراء التجارب على المجموع الصناعى محل التكنولوجيا عن 12 ساعة تشغيل ما هو ما يطلق عليه التزام المورد بإيضاح طرق التشغيل والاستخدام ، كما يطلق عليه الالتزام بنقل المهارة الفنية .
ونرى ان مدة التشغيل والتجربة للمجموع الصناعى محل العقد يجب ان تمتد الى الحد الذى فعلا فيه ويتحقق الانتاج بالموصفات التى تم على أساسها وبسببها عقد نقل التكنولوجيا ، بالاضافة الى التأكد من أن العمالة المحلية قادرة على هذا التشغيل ، ذلك ان التجربة كثيرا ما أوقعت الطرف المتلقى للتكنولوجيا فى أوهام وأخطاء وأننا لا نستطيع حصر وإحصاء السلسة الهائلة من المجموعات الصناعية المعقدة التى تنتقل الى الدول التى فى طريها الى النمو والتى توقفت تماما بعد تشغيلها بأيام ان لم يكن بعد ساعات معدودة !! .
والأساس القانونى وفق ما نرى لالتزام المورد بضمان تحقيق الإنتاج المتفق عليه هو ان طبيعة عقد نقل التكنولوجيا التى تقضى ان يكون التزام المورد التزاما بنتيجة وليس مجرد التزام بوسيلة . فالمتلقى عندما تعاقد مع المورد كان بقصد تحقيق إنتاج معين سبق لهذا الأخير إنتاجه بطرقه ووسائلة ومعرفته الفنية ، هذا الإنتاج بأوصافه ومزاياه هو أساس وسبب التعاقد والباعث الدافع له ، ولذلك يعد الإخلال بهذه النتيجة المحددة مسبقا إخلال بتنفيذ الالتزام الرئيسى فى العقد .
هذا الأساس من الصعب العثور عليه بوضوح فى التشريعات الوطنية للدول التى فى طريقها الى النمو نتيجة عدم الوصول بعد الى مفهوم متكامل للمقصود بالتزام مورد التكنولوجيا بضمان تنفيذ العقد . وان هذا التنفيذ يجب ان يتخذ شكلا مميزا فى مثل هذه العقود نتيجة تعلق شعوب هذه الدول التى فى طريقها الى النمو بآمال عريضة خلال سنوات طويلة من وراء التعاقد لنقل التكنولوجيا . ولذلك يقتضى الامر تطبيق مبادئ قانونية تتناسب ومفهوم عقد نقل التكنولوجيا وطبيعة التزام المورد بضمان صلاحية المنتج ومطابقته لأوصاف العقد واعتباره ملتزما بنتيجة وليس فقط مجرد التزام بوسيلة خلافا للقواعد والمبادئ القانونية العامة التى تعتبر التزام المتعاقد التزاما بوسيلة ما لم يقضى نص او اتفاق بغير ذلك .
وحاول تشريع التجارة المصرى رقم 17/1999 معالجة ذلك الامر فاشترط فى المادة (85/1) التزام مورد التكنولوجيا بضمان مطابقتها للشروط المبينة فى العقد ، كما ألزمه بضمان صحة الوثائق المرفقة بها والموضحة لملكية وطرق استخدامها . كما يضمن المورد إنتاج السلعة وأداء الخدمة التى اتفق عليها بالمواصفات المبينة بالعقد ما لم يتفق كتابة على غير ذلك .
وهذا النص وان كان يمثل ضمانا كبيرا للمتلقى للتكنولوجيا لانه التزام بنتيجة على عاتق مورد التكنولوجيا \ن الا ان إجازة المشرع الاتفاق على خلاف هذا الالتزام إنما يؤدى فى الواقع الى إفراغه من مضمونه حيث يمثل المتلقى فى الدول النامية الطرف الضعيف دائما لاحتياجه الملح للتكنولوجيا محل العقد ، الامر الذى يجعله يوافق على رغبة المورد فى الاكتفاء بالتزامه التزاما بوسيلة .
على ان الاتفاق على عدم ضمان المورد للمطابقة ، لا يمنع مسئوليته طبقا للقواعد العامة فى المسئولية العقدية المؤسسة على الخطأ وإثبات الضرر وهو ما أشارت اليه المادة (67) تجارى فى شأن مسئولية المنتج او موزع السلعة قبل كل من يلحقه ضرر بدنى او مادى يحدثه المنتج اذا أثبت ان الضرر نشأ بسبب عيب فى المنتج .
هذه المبادئ القانونية المتميزة فى مجال عقود نقل التكنولوجيا تقتضى حقا الدراسة والتعمق فى اختيار القانون الواجب التطبيق بعيدا عما اذا كان فى اختيار قانون أجنبى مساس بسيادة الدولة من عدمه ، ذلك ان الثابت من تشريعات الدول المتقدمة إنها تشدد فى مسئولية مورد التكنولوجيا ومسئولية الشركات المالكة لها كما تشدد فى قدر التعويضات عند تحقق الاضرار الناشئة عن استخدامات التكنولوجيا ، وتتضمن هذه التشريعات التزام أصحاب التكنولوجيا التزاما بنتيجة وضمانها مع عدم جواز الاتفاق على خلافها .
3- من حيث الشروط التعاقدية التعسفية :
ان شرح الشروط التعاقدية التعسفية فى عقود نقل التكنولوجيا ومدى امكان ابطالها او الحد منها وفقا لتشريعات الدول التى فى طريقها الى النمو المتلقية للتكنولوجيا من الامور التى شغلت ولا تزال تشغل دول العالم الثالث حتى الان ، وأساس ذلك هو غياب التشريعات الوطنية فى هذه الدول سواء معظمها او جميعها لتنظيم مثل هذه العقود الحديثة نوعا . ولا شك انه اذا كان القانون الوطنى هو الواجب التطبيق على عقود نقل التكنولوجيا الدولية فى حالة المنازعات بين الاطراف فانه لا شك تضيع حقوق وآمال الطرف الضعيف الذى سيجد نفسه مضطرا لكى يتحمل كافة النتائج الضارة له طالما ليس لها علاج فى تشريعه الوطنى .
هذا الامر لا شك يحتاج الى اعادة تفكير والنظر الى حكم القانون الاجنبى نظرة متأنية بعيدة عن العواطف والأفكار التقليدية حيث أصبحت تشريعات الدول المتقدمة تنظم النقل الدولى للتكنولوجيا فيما بينها وبين بعضها بحيث تحرم اى شرط يمثل مساسا بحقوق أطرافها او يضع قيودا على حرياتها فى التفاوض واختيار المركز العادل المحقق لصالحها كما خطت هذه الدول المتقدمة خطوات هائلة ان لم تكن متطرفة فى حماية المجتمع وأفراده من أية أضرار تصيبه نتيجة الخطأ فى أنتاج المواد الناشئة عن عقود نقل التكنولوجيا واشتراطها غالبا التزام المورد لهذه التكنولوجيا بضمان صناعتها وتفرض عليه ان تكون مثل هذه الالتزامات بتحقيق غاية وليس مجرد التزامات بتحقيق وسيلة .
وسوف نشير الى جانب من هذه الشروط التعسفية وأثرها على القانون الواجب التطبيق على المنازعات الناشئة عن عقود نقل التكنولوجيا فى ظل تشريع التجارة الجديد .
بعض الأمثلة على الشروط التعسفية :
يقصد بالشروط المقيدة او التعسفية فى عقود نقل التكنولوجيا تلك التى يفرضها الطرف المصدر للتكنولوجيا على الطرف المتلقى لها عن التعاقد فى شأن نقل التكنولوجيا . وبعبارة أخرى هى ما يمليه الطرف الاقوى الذى هو دائما الطرف المورد او المالك والمسيطر على التكنولوجيا من شروط تعسفية ويضطر الطرف المتلقى لها الى قبولها دون مناقشة كطرف متعاقد نتيجة حاجته للتكنولوجيا محل التعاقد وعدم توافرها بسوقه المحلى .
والأثر الاقتصادى لمثل هذه الشروط معروف مقدما الا وهو الاضرار الأكيد بالصالح الاقتصادية العليا للبلاد حيث يفوت على الدولة إمكانية الحصول على التكنولوجيا بأسعارها الحقيقية دون مبالغة او تعنت مما له اثر خطير فى دفع عملات حرة فى غيرمكانها المناسب .
وسوف نشير فى هذا الخصوص الى بعض صور من هذه القيود ومدى أثرها على الطرف المتلقى للتكنولوجيا .
أ- هناك الشروط المقيدة التى يفرضها الطرف المورد بمنع المتلقى من إجراء الابحاث والتحسينات على التكنولوجيا محل العقد او الشروط التى تلزم المتلقى بإعلام المورد بكافة التحسينات ومنحه إياها دون مقابل . ان مثل هذه الشروط تؤدى الى استغلال الطرف المتلقى استغلالا كبيرا ذلك ان من حقه إجراء مثل هذه التحسينات والحصول على مقابلها اذا ما اشترط الحصول عليها . وتقرر جمع التشريعات الوطنية للدول المتقدمة بطلان مثل هذه الشروط التعسفية .
ومن قبيل ذلك أيضا الشروط التى تجبر المتلقى على التنازل دون مقابل الى المورد عن براءات الاختراع او العلامات التجارية او الابتكارات او التحسينات التى يقوم بها المتلقى او يحصل عليها خلال فترة التعاقد .
ومن أحدث الشروط المقيدة تلك التى تفرض على المتلقى مساهمة المورد فى رأسمال مشروعه او الاشتراك فى إداراته ، وذلك بقصد السيطرة والتحكم فى سير المشروع والذى يمثل فى مجموعه نوعا جديدا من الاستعمار الاقتصادى .
ب- وهناك شروط أخرى يفرضها المورد بمنع المتلقى بأقلمة التكنولوجيا وفق احتياجاته المحلية مثل اشتراط منعه من تطوير التكنولوجيا . كذلك اشتراط المورد على المتلقى منعه من إجراء الابحاث العلمية والتحسينات لأقلمة التكنولوجيا او الوصول الى منتجات جديدة . ويعد هذا بلا شك حرمانا للمتلقى من حق أساسى هو حق المعرفة والبحث والتقدم والتنمية الذى يملكه كل فرد وكل دولة .
- ج-كذلك هناك شروط يفرضها غالبا المورد على المتلقى بحرمانه من بحث صلاحيات حقوق الملكية الصناعية فى حالة كونها عنصرا من عناصر التكنولوجيا محل العقد . ويقصد بحقوق الملكية الصناعية الحقوق التى ترد على ابتكارات جديدة مثل الاختراعات والرسوم والنماذج الصناعية وتلك التى ترد على شارات مميزة كالأسماء التجارية والعلامات الصناعية والتجارية . فهذه الحقوق الصناعية تزول نهائيا بمضى مدة احتكارها ، كما اذا تبين بطلانها او المنازعة فى ملكيتها بصدور أحكام قضائية نهائية .
ويترتب على حرمان المتلقى من بحث صلاحية هذه الحقوق او بحث ما اذا كانت قد انقضت وسقطت فى الدومين العام ، حرمانه من حق طبيعى هو معرفة مدى صلاحية التكنولوجيا محل العقد وما اذا كان المقابل لها هو نظير حق احتكارى ليتمتع بالحماية وحدة .
ويرتبط بذلك أيضا الشروط التى تمنع المتلقى من استعمال التكنولوجيا رغم انتهاء مدة العقد او بعد فقد التكنولوجيا لسريتها . وهناك الشروط المقيدة التى يلزم فيها المتلقى بإبرام العقد لمدة غير محددة رغم ما فى ذلك من أضرار أكيدة اذا ما ظهرت تكنولوجيا جديدة أقل تكلفة او أكثر أهمية للطرف المتلقى او تمثل طفرة صناعية كبيرة . كذلك تلك الشروط التى تمنع المتلقى من حريته فى تجديد العقد اذا ما رآى فى ذلك مصلحة له .
ويرتبط بذلك أيضا الشروط التى يحرم فيها الطرف المتلقى من حريته فى تجديد الدعاية والإعلان عن منتجاته ، ويقصد المورد بذلك عدم وصوله معه فى منافسة قد تكون فى غير مصلحته .
ان ما سبق ذكره من أمثلة للشروط التعسفية وغيرها التى تتضمنها عقود نقل التكنولوجيا التى تبرم عادة بين أطراف ينتمون الى دول متقدمة وأطراف ينتمون الى دول فى طريها الى النمو انما هى أمثلة تكشف عن الواقع العملى والذى تفرض التعاقدات خاصة مع الشركات متعددة الجنسية مالكة النصيب الأكبر لأحدث التكنولوجيا المتطورة . هذه الشروط التى تقيد حرية الطرف المتلقى للتكنولوجيا ، تحرمها جميع تشريعات الدول المتقدمة وتضع النصوص الصريحة على بطلانها حماية لاقتصادياتها بالدرجة الاولى ولمبادئ العدالة وحماية المتعاقدين من تعسف الطرف القوى . اما الدول التى فى طريقها التى النمو التى لم تقم بعد بإصدار تشريعات حاسمة لتقدير تطلان مثل هذه الشروط فان الطرف المتلقى للتكنولوجيا يجد نفسه مضطرا الى قبولها ، واذا فرض وصمم فى شروط التحكيم عن تطبيق التشريعات الوطنية لكان من شأن ذلك استمرا تعسف الطرف المورد الذى لن يجد نصا يحرم عليه مثل هذه الشروط على خلاف الحال اذا كان التشريع الاجنبى هو الواجب التطبيق .
وحاول تشريع التجارة المصرى معالجة ذلك قدر الاستطاعة عند تنظيمه لعقد نقل التكنولوجيا ، حيث أجازت المادة (75) إبطال كل شرط يرد فى عقد نقل التكنولوجيا ويكون من شأنه تقييد حرية المستورد فى استخدامها او تطوريها او تعريف الانتاج او الإعلان عنه . وينطبق ذلك بوجه الخصوص على الشروط التى يكون موضوعها التزام المستورد بأمر يتعلق بقبول التحسينات التى يدخلها المورد على التكنولوجيا وأداء قيمتها ، او يحظر إدخال تحسينات او تعديلات على التكنولوجيا لتلائم الظروف المحلية او ظروف منشأة المستورد او حظر الحصول على تكنولوجيا منافسة او استعمال علامات تجارية معينة او تقييد حق الانتاج او ثمنه او كيفية توزيعه او تصديره او اشتراط المورد فى إدارة المشروع او تدخله فى اختيار العاملين به .
كما تضمن نص المادة (75) تجارى المشار اليه جواز إبطال شرط المورد شراء المواد الخام او المعدات او الآلات وغيرها من المورد واحده او قصر بيع الانتاج او التوكيل فى بيعه على المورد او الأشخاص من الذين يعينهم .
على ان ذات المادة أجازت فى فقرتها الثانية صحة الشروط المقيدة سالفة الذكر اذا كان القصد منها حماية مستهلكى المنتج او تحقيق مصلحة جدية لمورد التكنولوجيا .
والواقع انه أيا كانت القيمة القانونية لحكم التشريع التجارى المصرى المشار اليه ، وأثرها فى حماية مصالح متلقى التكنولوجيا ، فان الامر يقتضى ويتطلب من وجهة نظرنا دراسة قوانين المورد فى هذا الخصوص وما اذا كانت تحقق فائدة أعلى للمتلقى عن تشريعة الوطنى من عدمه والأخذ فى الاعتبار عند التعاقد لموقف هذه التشريعات من حيث طبيعة التزام المورد وقدر التعويضات المقررة عند تحقق أضرار نتيجة استخدامات المنتج الناشئ عن استعمال التكنولوجيا محل العقد ، والأخذ بالتشريع الذى يحقق أعلى درجة من الضمان للمتلقى للتكنولوجيا سواء كان هذا التشريع هو الوطنى ام غيره وذلك بالنص على الحكم الصالح للمتلقى فى عقد نقل التكنولوجيا .
والنتيجة التى نريد التوصل اليها فى خصوص مدى صلاحية القوانين الوطنية للدول التى فى طريقها الى النمو لحكم موضوع النزاع فى عقود نقل التكنولوجيا بينهما وبين الدول المتقدمة هى انه طالما ان هذه الدول لم تستطع بتشريعاتها القائمة بالنسبة للنقل الدول للتكنولوجيا بينها وبين الدول الأكثر تقدما ، ان تحقق المصالح العليا الاقتصادية للبلاد شأنها شأن الدول المتقدمة ، فإننا نرى ان إصرار الدول النامية على فرض واشتراط قوانينها الوطنية لحكم المنازعات التى تنشأ فى مجال عقود نقل التكنولوجيا ليس دائما فى صالحها وأنه يجب دراسة حكم القانون الاجنبى المحتمل اختياره لحكم موضوع التحكيم مقارنة بالتشريع الوطنى القائم فى كل حالة على حدة واختيار أحكام القانون الذى يحقق أعلى درجة من الحماية للمتلقى والمتعاملين مع المنتجات الناشئة عن التكنولوجيا محل العقد وان يضمن أطراف العقد هذه الاحكام باعتباريها أحكام إرادتهما الواجبة التطبيق طالما لا تخلف هذه الاحكام نصا آمرا فى القانون الوطنى .
ونشير فى نهاية هذه الورقة الى انه حتى فى الحالات التى يجب فيها تطبيق القانون الوطنى لحكم النزاع وكان متعلقا بالنظام العام ، وكان هذا الأخير فى صالح الدول التى فى طريقها الى النمو ، فان مورد التكنولوجيا دائما يلجأ الى تغيير حكمة بطريقة او بأخرى مستندا فى ذلك الى مفاهيم يضعها لتحقيق مصالحه كفكرة المبادئ الدولية العامة المقبولة فى مجالات العقود ذات الطابع الدولى وكذلك كما حدث فى حكم التحكيم الشهير الذى صدر فى النزاع الذى نسب بين شركة ارمكو للبترول والمملكة العربية السعودية فبعد ان علمت هيئة المحكمين بحكم القانون السعودى للنزاع قررت ضرورة تفسير هذا القانون بواسطة المبادئ القانونية الدولية والعادات المتبعة فى صناعة البترول ومعطيات علم القانون المجرد.
وهنا ثار التساؤل من جديد عن مدى جدوى تطبيق القانون الوطنى اذا كان ما سينتهى اليه المحكمون يخالف ما أستقر عليه الفقه والقضاء فى شأن تفسير القانون الوطنى الذى أصبح واجب التطبيق .
ان الاجابة الصريحة فى هذا الشأن هى ان مصلحة الدول التى فى طريقها الى النمو لن تكون الا فى اختيار قواعد محددة محسومة لا تقبل الاضافة او الحذف وهذا يكون فى تبنى او اختيار أحكام وقواعد تشريع واضح المعالم مواكب لأحداث الافكار الحديثة الخاصة فى مجال التكنولوجيا ومخاطرها والتعويضات عنها ، وذلك بطريق تضمين عقد نقل التكنولوجيا هذه الاحكام باعتبارها قواعد إرادة الطرفين واجبة الاتباع طالما لا تخالف نصا آمرا فى التشريع الوطنى . والقول بغير ذلك ولا شك الدول التى فى طريقها الى النمو بمفاجأت قانونية فى غير صالحها ، فنجد ان الحلول التى تفرضها علينا هيئة التحكيم تتنافر تنافرا تاما مع ما كانت تعتقده محسوما بمجرد جعل قانونها حاكما وحيدا لموضوع النزاع المعروض على هيئة التحكيم وليس من المستبعد ان تكون هذه الحلول غير مقبولة داخليا .
فمصلحة الدول النامية هى فى الأخذ بأحكام قوانين بلد معترف لتشريعه بالعالمية ولتفسيراته الفقيهة والقضائية بالتقدم فى بنود عقودهم ليس فقط لتفادى التفسيرات غير المقبولة لقانونها المحلى والوطنى والتى تصل أحيانا الى مخالفة روحه ومضمونه ، ولكن أيضا حتى تتمتع بما تكفله لها أحكام هذا التشريع من حماية تفصيلية محكمة تضمن لها تعويضا حقيقيا شاملا لكل عنصر الضرر الذى لحقها . والأمثلة التى تقفز الى الأذهان هى حوادث التسرب النووى وتوريد الأطعمة التى تتجاوز فيها نسب الإشعاع المسموح به دوليا والحادث الشهير لشركة كاربويد والذى أدى بحياة من سكان الهند العزل وأصاب بأضرار جسيمة خطيرة .. الى غير ذلك من الامثلة فتمثل هذه الحوادث لم تكن أبعادها ومضارها فى الأذهان خاصة فيما يتعلق بحدود التعويض فيها فى نفوس المشرعين للدول النامية فى حين أنها قاربت الكمال وأصبحت من المشاكل التقليدية المحلولة فقها وتشريعا وقضاء فى الدول المتقدمة وبذلك تختلف المعالجة القانونية من جميع أجزائها تعويضا وعقابا باختلاف القانون الواجب تطبيقه .
وعلى أية حال فان الامر فى هذا المجال يقتضى من القائمين فى إبرام مثل هذه العقود الهامة ، التحقق عند تطيق القانون الوطنى ، والذى أصبح لزاما طبقا لحكم قانون التجارة المصرى ، من مدى ما يقدمه هذا القانون ومدى ما يسعف به من آليات قانونية فى حماية موضوع العقد عند احتمال حدوث أضرار للطرف المتلقى ومدى مسايرة هذا القانون لمفهوم المخاطر الحديثة التى تنشأ عن التكنولوجيا محل العقد وطرق التعويض عنها وحمايتها بما يحقق فى مجموعه مصالح الدول النامية الاقتصادية ، وعلى القائمين بإبرام هذه العقود محاولة اضافة ما يحقق أكبر قدر من الضمان لتعاقداتهم هديا بالتشريعات التى اهتمت بهذا الضمان وحققت قدر كبيرا لحماى المتلقى من تعاقده وتحقيق غايته.
أ.د/ سميحة القليوبى
أستاذ القانون التجارى والبحرى
بكلية الحقوق جامعة القاهرة