بسم الله الرحمن الرحيم
( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )
الآية 65 من سورة المائدة
——————–
( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما )
الآية 35 سورة النساء
————————
( يا أيها الذين امنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) الآية 8 سورة المائدة
( صدق الله العظيم )
دليل جواز التحكيم من القرأن والسنة والاجماع والقياس
ـــــــــ
الأدلة على جواز التحكيم متضافرة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس .
دليل الكتاب :
ــــــ قوله تعالى : ” وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ” قال ابن العربي : هي من الآيات الأصول في الشريعة وهذه الآية دليل على إثبات التحكيم ومشروعيته ، وعن ابن عباس قال : هذا الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله أن تبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ، ورجلا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء .
وقوله تعالى : ” فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ، وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ” ، قال ابن كثير : نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، من الأمر برجم من أحصن منهم ، فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة ، والتحميم – تسخيم الوجه بالفحم – ، والإركاب على حمار مقلوبين ، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم : تعالوا حتى نتحاكم إليه ، فإن حكم بالجلد والتحميم ، فخذوا عنه ، واجعلوه حجة بينكم وبين الله ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك ، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك .
وقد وردت الأحاديث بذلك ، ” عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد أحدثا جميعا ، فقال لهم : ما تجدون في كتابكم ؟ قالوا إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبية ، – الإركاب منكوسا – ، قال عبد الله بن سلام : ادعهم يا رسول الله بالتوراة فأتى بها فوضع أحدهم يده على آية الرجم وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال لـه ابـن سلام : ارفع يدك فإذا آية الرجم تحت يده
فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلـم فرجمـا قـال ابـن عمر : فرجما عند البلاط فرأيت اليهودي أجنأ عليها ” – أي أكب عليها – .
وقال ابن العربي : لما حكموا النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ عليهم الحكم ، ولم يكن لهم الرجوع وكل من حكم رجلا في الدين فأصله هذه الآية .
دليل السنة :
ــــــ عن شريح بن هانئ : أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه وهـم يكنون هانئا : أبا الحكم ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : ” إن الله هو الحكم وإليه الحكم فلم تكنى أبا الحكم ” ؟ فقال : إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم ، فرضي كلا الفريقين ، قال : ” ما أحسن من هذا فما لك من الولد ” قال : لي شريح ، وعبـد الله ، ومسلم . قال : ” فمن أكبرهم ” قال : شريح ، قال : ” فأنت أبو شريح ” فدعا له ولولده .
فهذا إقرار واستحسان منه صلى الله عليه وسلم لتحكيم القوم لأبي شريح وفي رواية البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : ” أصيب سعد يوم الخندق ، رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة ، رماه في الأكحل ، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل ، فأتاه جبريل عليه السلام وهو ينفض رأسه من الغبار فقال : قد وضعت السلاح ، والله ما وضعته ، اخرج إليهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فأين ؟ فأشار إلى بني قريظة ، فاتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكمه ، فرد الحكم إلى سعد ، قال : فإني أحكم فيهم أن يقتل المقاتلة ، وأن تسبى النساء والذرية وأن تقسم أموالهم ” .
والحديث نص في الموضوع إذ حكم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه وهو سيد قومه ، ومرضي عندهم ولا ريب في رضاهم به ، وقد ورد في بعض الروايات ما يشير إلى أن سعد بن معاذ رضي الله عنه استوثق من رضي قومه ، ورضي النبي صلى الله عليه وسلم .
وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” اشترى رجل من رجل عقارا له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب ، فقال له الذي اشترى العقار : خذ ذهبك مني إنما اشتريت منك الأرض ، ولم أبتع منك الذهب ، فقال الذي شرى الأرض : إنما بعتك الأرض
وما فيها قال : فتحاكما إلى رجل ، فقال : الذي تحاكما إليه : ألكما ولد فقال أحدهما : لي غلام وقال الآخر : لي جارية ، قال : أنكحوا الغلام الجارية ، وأنفقوا على أنفسكمـا منه وتصدقا ” .
فالحديث ظاهر في مشروعية التحكيم وفضل الإصلاح ، قال النووي : في الحديث فضل الإصلاح بين المتنازعين ، وأن القاضي يستحب له الإصلاح بين المتنازعين ، كما يستحب لغيره .
إجماع الصحابة :
ــــــــ فقد وقع بين الصحابة خلاف كثير فكانوا ربما حكموا فيه واحدا منهم ولم ينكره أحد فكان إجماعا . ومن ذلك ما كان بين عمر وأبي بن كعب رضي الله عنهما من مدارأة – خصومة – بينهما في نخل ، فحكما بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه فأتياه فخرج زيد بن ثابت إليهما ، وقال لعمر رضي الله عنه ألا تبعث إلى فآتيك يا أمير المؤمنين فقال عمر رضي الله عنه في بيته يؤتى الحكم فأذن لهما فدخلا وألقى لعمر وسادة فقال عمر رضي الله عنه هذا أول جورك ، وكانت اليمين على عمر رضي الله عنه ، فقال زيد لأبي رضي الله عنه : لو أعفيت أمير المؤمنين من اليمين ، فقال عمر يمين لزمتني فلأحلف ، فقال أبي رضي الله عنه ، بل يعفى أمير المؤمنين ويصدقه .
وتحاكم عمر رضي الله عنه مع رجل إلى شريح في أمر فرس اشتراها عمر بشرط السوم وحاكم علي رضي الله عنه اليهودي إلى شريح ، وحاكم عثمان بن طلحة إلى جبير بن مطعم ، وتحاكم علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ، فكان من جهة على أبو موسى الأشعري ومن جهة معاوية عمرو بن العاص وحكم أهل الشورى عبد الرحمن بن عوف ” .
وعلى القول بجواز التحكيم المذاهب الأربعة ، وجمهور الفقهاء ، كما سيأتي بيان ذلك .
القيـاس :
ـــــ يمكن قياس التحكيم على القضاء بجامع فصل الخصومة ، كما يمكن قياسه على الاستفتاء في عدم لزومه في الأصل .
أ.د عجيل جاسم النشمى