التحكيم بالصلح ومفهوم العدالة
المحكم بالصلح الذى يحمل بيده مصباح العدالة ، ليستكشف طريق حل النزاع فى عقله وضميره ، على ضوء نور هذا المصباح ، هذا المحكم يطبق العدالة والضمير ولا يطبق القانون ، يعود الى ضميره ليجد طريق الحق ولا يعود لاى خريطة ، فالمحكم بالصلح يحكم بالعدل ، ولكن كيف يكون ذلك ؟
العدل حدس . وهو فى خفايا الضمير ، يشعر به المحكم ولا يقرؤه ، ليس هو فى النصوص بل فى النفوس . العدل تكون فى مسلك الرجل حسن النية ، المتسم بالاستقامة والشرف والأمانة والانصاف والضمير ، والذى ينفذ موجباته بصدق واستقامة .
ولكن لكل محكم عدله ، اذ لكل محكم ثقافته وفكره ومفهومه للعدالة . وكل محكم ينظر الى العدل بنظارة يختلف لونها عن سواها .
وكما شغلت الفكر القانونى فكرة “حسنة النية” سواء فى القوانين المدنية او فى أعراف القوانين الانجلواميركية ، كذلك العدالة . وقد سال حبر كثير فى البحث عن تعريف ” لحسن النية ” ورغم كل الخلافات والتفسيرات ، فان اتجاها غالبا فى الفقه والاجتهاد مال الى تفسير حسن النية بأنها ” تعاون وبذل وعطاء بين أفراد المجتمع ، من أجل المصلحة العليا لهذا المجتمع ، كما هو التعاون بين الشركة من أجل خير ونجاح وازدهار شركتهم التى تجمع بينهم ، ففكرة حسن النية لا يمكن فهمها من خلال علاقة دائن بمدين ” .
وقد تبنت أكثر القوانين فكرة حسن النية ، ووضعتها كموجب قانونى فى تنفيذ العقد ، ولا سيما القانون الكويتى (190 مدنى) اليمنى (210) الفرنسى (1134 – 1135) الالمانى (242) المصرى (148) السورى (149) الليبى (148) العراقى (150) … الخ.
وقد ساعدت فكرة ” حسن النية ” على إنقاذ كثير من الحقوق التى لم يكن المحكمون او القضاة يجدون نصا فى القانون يساعدهم على إحقاقها . فكان لهم فى “حسن النية” فكرة يصعب تعريفها بنص ضيق ، ولكن عطر العدالة والحق كان يفون منها ، فاذا هو تتسع للتعويض عن ضرر وتقويم أى اعوجاج ، ولإحقاق الحق عند غياب النص . فالعدالة ليست مختلفة عن القانون ، بل الملاحظ ان القانون ذاته ، كثيرا ما يحيل الى العدالة كما يحيل الى حسن النية .
والفقه يصف العدالة بأنها نوع من ” التعايش السلمى بين الهيئات ” ، وهى تتطلع الى المستقبل وتهدف الى نشر السلام ، أكثر مما تهدف الى قطع الرقاب . فالعدالة هى من أجل إعطاء حلول تحترم ما كان يبحث عنه كل من الفريقين المتعاقدين من أهداف ، لم تكن متناقضة إطلاقا حين توافقا وتراضيا وتلاقت إرادتهما فى العقد . وهى موجب يفترض بالمحكم إيجاد حل يرضى به الطرفان لكى لا يقع الطلاق بينهما ، الامر الذى يعود بالضرر عليهما معا . والعدالة هى من أجل ان تؤمن استمرار سير العمل سير العمل المشترك ، الذى تراضى عليه الطرفان ، ومن أجل التغلب على المصاعب التى تعترض مسيرتهما المشتركة .
ومع ذلك تبقى العدالة أمرا نسبيا وموضع جدل ، وهى فلسفة وفكرة وليست نصا قانونيا يحدد أين تبدأ وأين تنتهى ، هى شعور ! ربما من هنا فإنها تتوقف على المحكم ويختلف مفهومها ، بين محكم وآخر ، ويعب إعطاء تعريف حصرى محدد لها .
وبالنتيجة ، فان العدالة لها دور فى فك عقدة النزاعات المعقدة ، وإزالة فتيل الانفجار فى علاقات تعاقدية ، من أجل استمرارها ، والتغلب على المصاعب وتضارب المصالح والحقوق ، وهى تصلح كثيرا ولا يصلح سواها لتصفية أوضاع فى غاية التعقيد ، وليست العدالة موجودة لاستبعاد تطبيق القوانين .
هكذا يغرف المحكمون من فكرة العدالة ، كما يغرفون من فكرة حسن النية ، لإيجاد حلول النزاعات لا يجدون لها حلا فى النصوص القانونية .
كما نص المشرعون على حسن النية كوجه من وجوه العدالة ، كذلك فان الفكر القانونى أوجد معيارا لموجب “بدل العناية” حين فرق بينه وبين موجب “تحقيق الغاية” فجعل من شخصية “رب العائلة الصالح” مقياسا يقاس به تنفيذ الملزم بهذا الموجب ، واعتبر رب العائلة الصالح هو ” الرجل المتوسط العادى المتروى الحذر المتنبه المهر ، والمتقن المعتنى يعمله” . من هنا يمكن اعتبار الرجل العادل هو الرجل حسن النية ، المتسم بالاستقامة والشرف والأمانة والانصاف والضمير ، والذى ينفذ موجباته بصدق واستقامة .